بين راحتين من ورق

فيرونيكا تقرر أن تموت.. نبض بخمسة أصابع!

عنوان الكتاب: فيرونيكا تقرر أن تموت.
اسم المؤلف: باولو كويلو.
الطَّبعة: السَّادسة 2010م، شركة المطبوعات للتَّوزيع والنَّشر.
الحجم: 14*21، بعدد (299) صفحة.
ترجمة: رنا الصيفى.
تدقيق لغوى: روحى طعمة.

فيرونيكا تقرر أن تموت

الموتُ والحياةُ… والجنونْ

كلٌّ منَّا في فترةٍ من فتراتِ حياته، يجدُ نفسهُ وحيدًا في هذا العالم القاسي. لا شيءَ يقودهُ، لا شيءَ يُهديه طريقَ الخلاصِ من أسوأ ما قد يُجابههُ الإنسان؛ الوحدة. ثُمَّ ما تبثُّه الوحدة من متاهةٍ تطوِّقُ أفكارنا. يتملَّكنا الجرحُ الذي يفيضُ كلَّما مرَّت ليالينا دون أن نعي حقًّا أين تكمنُ حقيقة وجودنا حين نبحثُ عنها، وأين تضيعُ حين نبتعد. إضافةً إلى انكسارِ القلبِ وقهر النَّفسِ، فيبدو وكأنَّ كلّ شيءٍ يغدو ضدَّنا، وتُصبحُ الحياة مع وجود أحلامنا بجمالها أسوأ ما قد يعتري أعماقنا. عندئذٍ، تنتفي الرَّغبةُ بها لنتمنَّى الموت!

الموت! متُى يكونُ الموت سببًا للحياة؟ عندما نعلمُ أنَّنا سنموتُ بعد أيَّام، هل تتغيَّر تصرُّفاتنا، وتُصبحُ رغباتنا أعمق، وجموحنا أكبر؟ هل يُصبحُ الموت سببًا للانفلاتِ الأخلاقي؟ فلا نعُد نهتمُّ بما نقول، أو نفعل، أو نُقيمُ اعتباراتٍ للآخرين؛ ما دُمنا نعلمُ أنَّنا مُغادرون هذه الحياة عمَّا قريبٍ ولا شيء يستدعي أن نكون أكثر لُطفًا أو تعقُّلًا؟

ما الجنون؟ ما الحدودُ الفاصلة أو الشَّعرة التي تفصل بين الجنونِ والعقل؟ هل المجنونُ من ذهبَ عقله وأصبح غير قادرٍ على التَّعبير أو التَّمييز كمن فقد ذاكرته؟ أم المجنون الّذي يُجابه مخاوفه ويواجه الآخرين ويسيطرُ على ذاته قبل أنْ تَلتحمَ بذاوتِ الآخرين؟ هل لكلٍّ منَّا ذاتين، ذاتٌ حقيقية لا تظهر إلَّا حين نكون بمفردنا، وذاتٌ مُزيَّفة نقابلُ بها الآخرين؟

لا تُعطي الحياةُ كلَّ شيء. هذه حقيقةٌ يجبُ أنْ نعيها جيِّدًا؛ لذلك فإمّا أن تعيش حياتك بالطَّريقةِ الّتي تعوَّدتها؛ وإمَّا أنْ تنتحر! وإمَّا أن تعود لطبيعتك الحقيقيّة، الجُنون!

فيرونيكا

في الرَّابعةِ والعشرين من عُمرها. شابةٌ أعطتها الحياة ما تتمنَّاهُ كلّ فتاة: الصِّبا، الجمال، العُشَّاق الوسيمين، الوظيفة المُريحة، والعائلة المُحبَّة؛ ولكنَّها ضجرة من حياتها، شعرت بالضَّعفِ جرَّاءَ ما يجري في هذا العالم، وككلِّ من لا يملكون ما يودّون تحقيقه، وككلِّ من يسكنهُ فراغ عميق، وكلِّ من يعيشُ مللًا وقلقًا وروتينًا لا نهائي، ويسأمون من واقعهم سريعًا فيدخلون كهفَ الكآبةِ فلا يعد أمامهم بعد اليأس سوى التَّحررِ والهروب من هذا الواقع. الهروب في حالتها كان انتحارها بابتلاع حبوبَ أربع علبٍ مُنوِّمة، ظنَّت أنَّها لن تفيقَ بعدها؛ غير أنَّهُ كان انتحارًا فشيلًا؛ لأنَّها عندما استفاقتْ وجدت نفسها مُقيَّدة في مستشفى للأمراضِ العقلية، وعرفت أنَّها لن تَعيشَ طويلًا، فمُحاولة انتحارها المُخفقة أتلفت قلبها، وما عاد لديها غير أسبوعٍ واحد قبل أن تُغادرَ عالمها بلا رجعةٍ، كما أرادت ورَجت.

أقدمت فيرونيكا على شيءٍ لا يجرؤ على فعلهِ أيًّا كان.

«وحدهم الأبطالُ والمجانين لا يخافونَ الحياة أو الموت ولا يبالونَ بالخطرِ وسوف يمضون قدُمًا بالرَّغمِ ممَّا يقوله الآخرين».

ثُمَّ وصلت إلى نتيجةٍ:

«لقد اكتشفتُ ما اكتشفه معظم النَّاس مُتأخرًّا جدًا أنَّهُ كان يجبُ أنْ أكون أكثر جنونًا».

إلَّا أنَّها خافت الموت. خشيَت انتظاره مُتربِّصًا بها ليهجمَ فجأة بلا إنذار. كانت تتحكَّم في موتها، وقرَّرت أنّها ستموت متى ما أرادت. أمَّا الآن، فإنَّها في حالةِ ترقُّبٍ لهذا المجهول، تخشى أن يأخذها وهي في أمسِّ الحاجةِ إلى الحياة!

في المستشفى أعادت التَّفكير في حياتها، كيف كانت؟ ولمَ بدتْ على هذا الوجه؟ يتغيّرُ قوسها العاطفي، فهي لم تعد تلك الفتاة السَّاذجة الضَّعيفة التي تعمل حسابًا لكلِّ من حولها، التي تكبتُ مشاعرها ورغباتها خشية أن تُزعجَ الآخرين؛ مع أنّها لم تَغضب يومًا من أحد.

«لم تغضب يومًا من أحد لأنَّ الغضب يستلزمُ ردَّة الفعل والقتال مع العدو ومواجهة عواقب غير مرتقبة».

لكن مع اكتشافها الحقيقية أصبح لزامًا عليها أن تفعل ما لم تفعله يومًا. أصبح من الضَّروري أن لا تنكمش على نفسها وأن تتصرَّف بالطَّريقةِ التي تُريد؛ لذا لم تستحي ولم تخف -وإن كانت قد تردَّدت في البداية- من أن تصفع ذلك الرُّجل العجوز بعد أن تعمَّد السُّخرية منها إزاء أصدقائه في الأخويّة، ومهما كانت ردَّة فعلها مُبالغة أو في غيرِ محلِّها؛ فلأنَّها الآن تُخالفُ طبيعتها الّتي تعوَّدت عليها، ومع الوقتِ، ستتعلَّم كيف تتحكَّم في مشاعرها دون أن تستسلمَ لها ودون أن تقعَ فريسةً لواقعها.

«وبعد الحادثة مع الأخوية، راودتها بعض الأفكار كأن تقول: لو ملكتُ خيارًا آخر… لو أدركتُ أن سبب تشابه أيَّامي هو أنَّني أردُتها هكذا، لرُبَّما كنت…».

مستشفى الأمراض النَّفسية والعقلية (فيليت)

في مستشفى فيليت في سلوفينيا (إحدى الجمهوريات الحالية التي كانت تؤلِّف جمهورية يوغوسلافيا)، مستشفى للأمراضِ النَّفسيَّةِ والعقلية، هو المكان الذي تدورُ فيه أحداثُ الرِّواية، وبين المضطربين نفسيًا، والمجانين، وبعض العقلاء، يبدأُ قلب فيرونيكا التَّالفُ يُبصرُ معنًى جديدًا للحياةِ. نجدها تتصَّرف بمنطقِ المجانين، أي: بمنطقِ ليس على المجنونِ حرج. وفي حالةٍ كهذه، يسعها أن تقول ما تُريد، أن تفعل ما تشاء، بلا رادعٍ أو وازعٍ يُقوِّضُ أفعالها. فنراها تُطلقُ العنان لقلبها المذبوحِ من ألمِ الحياة الّتي أبدًا ما فاضتْ إلَّا بأنواعٍ وأصنافٍ من دروبِ الكآبة المُطلقة. ها هي تتعلُّمُ معانٍ جديدة، تكتشفُ أنَّ كلَّ لحظةٍ تعيشها -الآن- هي خيارٌ بين الحياةِ والموت، وتتعرَّف مشاعرَ ما عاشتها سابقًا: الخوف، والفضول، والحبُّ، والرَّغبة، والضَّغينة، والكُره، والغضب، والانتقام؛ مشاعرُ عدَّة قايضت بها فيرونيكا القديمة المُزيَّفة لتكتشف أنَّ بداخلها عدَّة وجوهٍ لفيرونيكا، رأت وجهها الحقيقي ينعكسُ على مرايا مُتعدَّدة، مرايا لم تكن لتراها لولا مُحاولتها الهروب من حياتها.

«أردتُ تناول الحبوب لقتلِ شخصي الذي أكرهه. لم أعلم أنَّ فى داخلي عدَّة شخصيات غيرى، عدَّة فيرونيكات.. لكنتُ أحببتهن».

نعم أرادتْ قتل شخصها الّذي كرهته وتربَّت عليه. أرادت أنْ تنمو كأيِّ شخصيةٍ سويَّة يُمكنها أن تُحبَّ، وأن تُعبِّرَ عن مشاعرها لتبني جسرًا مع الطَّرفِ الآخر قوامه الرَّغبة والحبّ لا الخوف والذُّعر. لماذا كرهت نفسها؟

«رُبَّما كان الجُبْن، أو الخوف الأبدي من أن يكون على خطأ، أو من عدمِ قيامه بما يتوقَّعه الآخرون».

إذًا مُحاولة إنكار ذواتنا في سبيلِ إرضاءِ الآخرين، هو نوعٌ من أنواعِ مُعاقبةِ النَّفس؛ فنحنُ مع هذه الحالة لا يُمكننا أن نُحب أو أن نُسيطر على مشاعرنا، فنفقد الأمان، ويتلبَّسنا الخوف. وفيرونكيا لم تكن قويَّة كما كانت في حياتِها قبل انتحارها.

«كانت متصلبة الرَّأي تجاه الأمور البسيطة، في محاولةٍ منها تُثبتُ فيها قوَّة شخصيتها اللامبالية في حين كانت في الواقع مجرد امرأة هشَّة».

نعم، كانت تُمثِّل. لقد أظهرت عكس ما تُبطِن. كانت تنشدُ الكمال ولكنّها تؤنِّبُ نفسها حين يتعلَّقُ الأمر بالآخرين؛ فتنكرها أو تكبت مشاعرها وتُحدِّدُ تصرَّفاتها بناءً على انعكاسها عليهم؛مع أنَّها تحتاجُ إليهم، فلا أحد يستقلّ بذاته أبدًا.

«وقد تمكَّنت من الظُّهورِ مستقلةً حرَّة تمامًا فى حين أنَّها كانت بأمسِّ حاجةٍ إلى الصَّداقة».

هكذا هي فيرونيكا. عاشت حياتها السَّابقة مُتبلّدة المشاعر والأحاسيس، كلُّ شيءٍ باهت أمامها. لا تعرف متى تكون سعيدة ومتى تحزن، ولم تُجرِّب الأحاسيس الكاملة. في الحقيقةِ هي حالُ مُعظمنا!

«لم أشعر يومًا بالكآبة تعتريني، أو بسعادةٍ غامرةٍ أو بحزنٍ كبير، أو أقله بشعورٍ طال».

مشكلاتنا النَّفسية تنشأُ منذ الصِّغر بناءً على تربيتنا. تلك التَّربية الّتي ترسمُ حدود مستقبلنا وتُعلِّمنا كيف ننظرُ إلى ذواتنا باحترامٍ تام، وفي لحظةٍ ما، وعندما يمضي العمر، ونبقى عبيد ذواتنا المُزيَّفة، نحتاجُ إلى الرُّجوعِ لماضينا نستلهمُ منهُ القُدرة على مُجابهةِ حاضرنا.

«لقد واجهتْ، خلال سنِّ المراهقة، مشكلاتٍ عديدة أكثر صعوبة من هذه. ومع ذلك فإنهِّا الآن تعجز عن لجمِ دموعها. شعرتْ بحاجةٍ لأن ترجع إلى شخصها القديم، الشَّخص القادر على ردِّ الفعل باستهزاء، والادعاء بأنَّ إهانة الآخرين له لم تزعجهُ لأنَّهُ أفضلهم جميعًا».

نحتاجُ إلى الثِّقةِ بأنفسنا وتقديرها وحبِّها وقبولها كما هي، دون أن نُلغي إرادتنا، وعندما نتغلَّبُ على خوفنا ونسعى إلى مغامرتنا، سنحبُّ الحياة ونحترمُ ما تُقدِّمهُ لنا من مكآفاتٍ وما تسلبهُ منَّا.

«أريدُ أن أفعلَ شيئًا مُختلفًا تمامًا في حياتي أُريد أن أخوض مغامرةً أساعدُ فيه الآخرين وأن أعمل شيئًا لم أفعلهُ من قبل».

هذا ما تُقدِّمهُ هذه الرِّواية الرَّائعة. عندما لا يكون لديك مُتَّسعٌ من الوقتِ تُدهشُ أنَّك تسعى إلى ملء هذا الوقت بكلِّ الرَّغباتِ والأهواءِ والانفعالاتِ الّتي تحتلك. لا يعُود يهمُّك شيء. لا شيء يستدعي انحناءك لالتقاطِ ما قد يتساقط من الآخرين، المُهمُّ أنت، أنت فقط.

أحبُّ أن أُشير إلى أنَّنا نحتاجُ إلى أن نوازنَ ما بينَ ذاتنا المُزيَّفة وذاتنا الحقيقيّة. هناك مواقفٌ تدعمُ اعتمادنا على إحداهما أكثر من الأخرى. الحالةُ المرضية عندما نعتمدُ اعتمادًا كُليًّا على إحداهما وننسى الأخرى. فواحدة هي الزَّيف، والأخرى هي الصِّدق. فهل يُمكننا أن نبقى مُزيِّفين على الدَّوام، أو صادقين على الدَّوام؟ أيُمكنُ أن نبقى مثاليّين إلى الأبد، أو كاذبين إلى الأبد؟ مُستحيل.

تقول ماري مُخاطبةً فيرونيكا:

«ابقي مجنونة، لكن تصرَّفي كالنَّاس الطَّبيعيين. جازفي في كونكِ مُختلفة، لكن تعلَّمي القيام بذلك من دون لفتِ الانتباه».

الشَّخصيَّاتُ الرَّئيسة الأخرى

في المستشفى، تتعرَّف إلى أربعِ شخصيّاتٍ إضافةً إلى فيرونيكا، الدكتور إيغور، زيدكا، ماري، إدوارد. قصَّةُ فيرونيكا أثَّرت في كلٍّ منهم، معرفتهم أنَّها ستموتُ عمَّا قريب جعلهم يُعيدون التَّفكيرَ في ذواتهم.

زيدكا

أوَّل علاقات المستشفى العابرة مع فيرونيكا. مُصابة بالاكتئاب بسببِ رجلٍ مُتزوِّج، عاشت معهُ أحلى أيَّام صباها وذلك قبل زواجها. سافرت وأقامت معهُ في بلده، ثُمَّ افترقا حين أدركت أن وجودها بات مُزعجًا. لكنَّها في يومٍ ما بعد سنين من زواجها استعادت كلّ الذِّكرياتِ القديمة، واتَّهمت نفسها بأنَّها لم تُناضل كفاية للحفاظِ على حبِّ حياتها، حتَّى وإن كانت عشيقة؛ فتملكتها الحسرة والتَّعاسة لتصحو مُكتئبة.

«سخَّرت حُبَّها المُستحيل عذرًا لها، لا بل حُجَّةً لتقطع الأوصال التي جمعتها بحياتها، وهي حياة اختلفت عمَّا توقَّعتهُ لنفسها».

علَّمت فيرونيكا معنى الجنون.

«كلُّ من يعيشُ في عالمهِ الخاص يكون مجنونًا. كالفصاميين أو المضطربين عقليًا أو المهووسين. أعني الأشخاص المُختلفين عن غيرهم».

لذا هي تجد ميزة في الجنون. مثلُ ميزة النَّبيذ. يُذهب العقل فيزيد الجُرأة. تقولُ عن نفسها:

«لكنَّني مجنونة، وأنا أتلقَّى علاجًا، لافتقار جسمي إلى مادةٍ كيميائية مُعيَّنة. ومع أنَّني أتمنَّى أن تقضي هذه المادة على كآبتي المُزمنة، فإنَّني أودُّ أن أبقى على حالي مجنونة، أحيا حياتي كما أتخيلها على طريقتي، لا على طريقةِ الآخرين».

وتقول زيدكا عند وداعها فيرونيكا بعد شفائها وقُبيل خروجها من المُستشفى:

«سأبيحُ لنفسي أن تُقدم على الحماقاتِ، فقط ليقول النَّاس: “لقد خرجت لتوِّها من فيليت”. لكنَّني أعرفُ أنَّ روحي مُتكاملة، لأنَّ لحياتي معنًى».

لتصل إلى نتيجةٍ:

«بيد أن جنوني قد أعتقني».

إيغور

الدَّكتور إيغور، رجلٌ طويل القامة، يصبغُ لحيته وشعره بالسَّواد. هو مُدير المُستشفى، وابنتهُ اسمها أيضًا فيرونيكا صديقة باولو كويلو. بدأ علاجهُ فيرونيكا بكذبةِ أنَّ الغيبوبة الّتي أصابتها من جرَّاءِ تناولها الحبوب، أصابها بموتٍ موضعي في بُطينِ القلب. أشاعَ هذه الكذبة في المُستشفى بين المرضى لأنَّهُ كان يبحث عن طريقةٍ لعلاجِ الجنون، عن دواءٍ ما. فهو يرى أنَّهُ من الصَّعبِ -دائمًا- أن يتأقلم المريض مع حياتهِ الطَّبيعيّة بعد قضاء مدّةٍ في المستشفى.

«فكما أنَّ السِّجنَ لا يُعيدُ تأهيل المساجين أبدًا، بل يُعلِّمهُ من ارتكابِ المزيد من الجرائم فحسب، فإنَّ المستشفيات تدفعُ بالمرضى لتعود نمط حياةِ عالمٍ خيالي بحت، حيثُ كل شيء مباح، حيثُ لا أحد يتحمَّل مسؤولية أفعاله».

لذا هو يفني عمره الآن في مُحاربة مادة الفيتريول التي يُعتقد أنَّها العنصر المُسبِّب للجنون، ومن أجلِ ذلك كانت فيرونيكا هبة السَّماء له.

يقول الدَّكتور إيغور مُخاطبًا ماري:

«إنَّ كلًّا منَّا فريد، يملكُ صفاتهُ الخاصَّة وغرائزه، وأنواعًا من اللذَّةِ يستمتعُ بها، وغربة في خوضِ المُغامرات. غير أنَّ المُجتمعَ يفرضُ علينا دومًا طريقة جماعية في السُّلوك”.

ويقولُ أيضًا:

«يخالفُ البشر قوانين الطبيعة، لأنَّهم يفتقرون إلى الشَّجاعة للتَّميُّز عن بعضهم».

ماري

مُحاميةٌ كبيرةٌ في العمر. دخلت فيليت بسبب نويات الذُّعر التي تُصيبها. فالقانون الّذي امتهنته لم يُساعدها كثيرًا على جلبِ الحقوق الضَّائعة، أو في فهم طبيعته الغريبة مع المُجتمعات. القوانين -برأيها- لم توضع إلَّا لتُطيل مُدَّة الخلاف. كانت ترى أنّ تعدُّد الأنظمة تُخالف القوانين، والقوانين تُخالفُ الأنظمة. حالة من الفوضى تعتري المُجتمع. أدَّت إلى خوفِ النَّاس من مُخالفة تلك الأنظمة والقوانين؛ ولهذا تقول:

«لكن هذه هي حال البشر. لقد استعضنا بالخوفِ عن باقي أحاسيسنا كلَّها تقريبًا».

وتقولُ بعد أن معرفتها عن موت فيرونيكا الوشيك:

“ماذا لو حلَّ ذلك بي أنا؟ لديَّ فرصةً لأعيش حياتي! لكن، هل أحياها جيِّدًا بالفعل؟».

وتقولُ مُخاطبةً إدوارد:

«أشعرُ برغبةٍ في عيشِ حياتي مجدَّدًا يا إدوارد. أشعرُ برغبةٍ في إرتكابِ كلّ الأخطاء التي أردتُ ارتكابها ولم أملك الشَّجاعة لذلك، فأتصدَّى للإحساس بالذُّعرِ الذي يليها، الذي سيثقل كاهلي لمجرَّد حضوره، لأنَّني أعلم الآن بأنَّني لن أموت بسببه! باستطاعتي أن أكسب أصدقاء جددًا، وأُعلِّمهم الجنون، ليكونوا حُكماء. سأقولُ لهم ألَّا يتَّبعوا تعليمات حسن السُّلوك، بل يكتشفوا ما هية حياتهم الخاصَّة ورغباتهم ومُغامراتهم. سأقول لهم أن يعيشوا».

وتقولُ أيضًا:

«وجنحتْ أفكاري إلى ما هو أسوأ من عذابِ المؤلفين، إلى فتاةٍ عزفت موسيقاها من صميمِ القلبِ لعلمها بأنَّها تحتضر. أوَلن أموتُ أيضًا؟ أي هي روحي التي قد تعزفُ لحن حياتي الخاصَّة بمثلِ هذا الاندفاع؟».

وأيضًا:

«بموتِ تلك الشَّابة الوشيك، أدركتُ كنه حياتي الخاصَّة».

إدوارد والحبُّ الحقيقي

إدوارد شابٌ في الثَّامنةِ والعشرين من العمر، مُصاب بالإنفصام، والده دبلوماسيًّا في البرازيل جاهد على أن يكون ابنه نسخةً منه. ولكن إدوارد أحبَّ الرَّسم وهذا ما لم تقبله العائلة؛ فالرَّسمُ لا يُعدّ مهنةً لكسبِ العيش. هذه روايةُ الموت والحياةِ والجنون، والحبّ أيضًا. حبُّ الأهل لأبنائهم واعتقادهم الدَّائم أنَّهم يعرفون مصلحتهم بناءً على خبرتهم، فيرسمون ويُخطِّطون الطَّريقة الّتي سيسير عليها أبناؤهم. مع إيماننا التَّام أنَّ الأهل -دائمًا- يُريدون الخير والسَّعادة لأبنائهم؛ ولكنَّهم -أحيانًا- قد يحيدون عن الطَّريق، ويُجبرون أبناءهم باسم الحبِّ على التَّنازلِ عن أحلامهم والتَّراجعِ عن طموحاتهم في سبيلِ إرضائهم. النَّتيجة أنَّنا لا نعود نتعرَّف إلى ذواتنا الحقيقيّة، فنقع بين عالمين: عالم الواقع وعالم الحُلم. وهذا ما حدث لإدوارد، لم يستطع أن يتقدَّم في إرضاء أبيه وأمه، ولم يستطع أن يتخلَّى عن حلمه. فبقيَ مُعلّقًا بين عالمين.

يقولُ الأب:

«… وفعلتُ كلّ ذلك كي أصنعَ لك مكانةً، لا أزال أحتفظُ بالقلمِ الذي وقَّعتُ فيه وثيقتي الأولى كسفيرٍ، ثُمَّ حفظتهُ بمودَّةٍ كي أُقدِّمهُ إليك يوم تقوم بالمثل، نُريد أن نموتَ بسلامٍ مُطمئنين إلى أنَّنا قد أعددناكَ على الدَّرب الصَّواب. إن كُنتَ تُحبِّنا حقًّا فافعل ما أطلبهُ منك».

ويردُّ إدوارد:

«أنتَ تُحبِّني يا أبي، ولا يُمكنكَ أن تطلب منِّي ذلك. لطالما كُنتَ مثالًا جيِّدًا لي عبر نضالك في سبيل ما يهمُّك. لا يُمكنك أن تصنعَ منِّي رجلًا يفتقرُ إلى إرادته الخاصَّة».

هي المعاناة نفسها الّتي عانتها فيرونيكا صغيرةً عندما أرادت احتراف العزف على البيانو.

«تخلَّت عن العديدِ من رغباتها كي تحتفظ بحبِّ والديها كما أحبُّوها وهي صغيرة».

إذًا الحبُّ الحقيقي هو إتاحةِ الفرصة للآخر أن يَحلمَ وأن يُخطِّط لمستقبله، ويُقرِّرُ كيف سيُدير حياته الخاصَّة.

«أنا أريدُ، بل أحتاج أنْ أُحبَّ نفسي مجددًا، عليَّ أن أقتنعَ بقدرتي على اتخاذِ قراراتي الخاصَّة. لا يًمكنني اتخاذ قرارات اتَّخذها غيري لي».

وهذا هو الحبُّ الحقيقي.

«ذاك الّذي يتغيَّرُ وينمو مع الوقتِ، ويتبلور في طُرقٍ عدَّة».

عليك أن تعيشَ حياتك على طريقتك الخاصَّة، أن تشعر (بالأنا)، الأنا الحقيقة.

«إنَّها ما أنت عليه حقًّا، وليس ما يصنعهُ الآخرون منك».

فها هي فيرونيكا تطلبُ من إدوارد:

«لا تشعر بالحرج لأنَّ أحدهم يحبك. لا أطلب منك شيئا إلا أن تدعني أحبك، وأعزفُ لك موسيقى ثانية هذه الليلة، لمرَّة واحدة بعد . . . إن تمتعتُ بالقوة الكافية للعزف. غير أنَّني سأطلبُ منك أمرًا واحدًا في المقابل: إن سمعت أحدهم يقول إنَّني أحتضر، أسرع إلي حيث أنا ودعني أحقق أمنيتي الأخيرة».

ليُصبح هذا الحبُّ والرَّغبةُ في الحياةِ سببًا لشفاءِ إدوارد وعودتهِ إلى واقعهِ، وسببًا في تعلِّقِ فيرونيكا بحياتها التي تعلَّمت كيف تعيشها بكلِّ ما يملأؤها من تناقضات.

هذه هي طبيعة البشر، لا يشعرونَ بمُتعةِ الحياة إلَّا عند اقترابِ آجالهم!

لا تخلو الرِّواية من بعضِ الجنسِ، وإن كان الجنسُ هنا من أجلِ اختبارِ أعمقِ رغباتنا الخاصَّة الدَّفينة. استَمنَتْ فيرونيكا عارية تمامًا إزاء إدوارد ووصلت إلى الرَّعشةِ أكثر من مرَّة؛ لتعيشَ لذَّتها الكاملة، لذَّتها الذَّاتية الّتي لم تعرفها سابقًا مع كلِّ من ناموا معها. مُتعتها المفقودة في خضمِ فراغها الرُّوحي.

«في مُخيِّلتها كانت تُمارسُ الحب مع رجالٍ اختلفَ لون بشرتهم، من أبيضٍ وأسود وأصفر، رجال مُثليين وشحَّاذين. كانت ملكًا لأي يكن؛ واستطاع أي يكن فعل ما يريدهُ بها. شعرت برعشةٍ أولى، فثانية، فثالثة؛ وتوالت الرَّعشات، الواحدة بعد الأخرى. أخذت تتصوَّر ما لم تتخيَّلهُ مُسبقًا، مُسلِّمة نفسها لأكثرِ الأمور دناءةً وغرائزية. ولعجزها عن احتواءِ شُعورها أكثر، صرخت من اللذَّة، من ألمِ كلِّ هذه الرَّعشات، كلُّ أولئك الرِّجال والنِّساء الذين دخلوا جسدها، وغادروه عبر أبوابِ ذهنها».

فيرونيكا تقرر أن تموت

تُناقشُ هذه الرّواية فلسفة الحياة والموت، وتكشفُ كلّ المسائل والقضايا الّتي تندرجُ تحتهما، مع الولوجِ إلى عالمٍ المجانين، فيُشكِّك الكاتبُ في معنى الجنون، لنقتنع أنَّ كلَّ إنسانٍ مجنون، فالجنونُ كامنٌ في لا وعينا، نُبقيهِ في مكمنٍ عن الآخرين، ولا نُطلقهُ إلى حين نكون وحيدين. لماذا؟ لأنَّنا نبدو على طبيعتنا حينئذٍ، ولأنَّنا نعلمُ جيِّدًا أنَّ مُجتمعنا لن يتقبَّل سلوكنا الجنوني، وهذا دليلٌ على أنَّ اختلافنا، هو: جنوننا الحقيقي. كلُّ من حاول أن يثورَ على المألوف، وأن يلغي القوانين والأنظمة الثَّابتة الّتي في النهايةِ وضعها بشرٌ هم في حالاتهم الحقيقيّة مجانين أيضًا- عندئذٍ يصفه الآخرون بالجنون. في الغالبِ يرتبط بالجنون بالابداع والأمثلة كثيرة.

المجنون الحقيقي هو العاجزُ عن نقلِ أفكارهِ للآخرين وسلوك ما يُريد؛ ليبقى هناك رابطًا بين مُعظمِ المجانين أو مُدَّعي الجنون، وهذا الرَّابط هو الخوف، جميعهم يخافون، والمُفارقة أنَّ في خوفهم شفائهم!

«إن الجنونَ هو العجزُ عن التَّعبير عن أفكارك».

باولو كويلو يقصُّ لنا في روايتهِ المُميَّزة قصَّة كلَّ شخصيةٍ بتفاصيلها لنعيش أجواءً ملحميّةً بديعة، تحملهُ بين طيَّاتِ كلماتهِ الدَّافئة والحالمة والمُتلاحمة مع الحياةِ الّتي يجب أن نعيشها كمجانين، أو في الأقل أن ندَّعي أنَّنا مجانين لنستطيع مُجابهة ضجرنا والاستمتاع بسعادتنا، ويكون ذلك بتمجيدِ سلوك الفردِ الّذي يضيقُ بما يعدّه المُجتمع أنماطًا سويَّة. فيثور على كلِّ نفسه ليُحقِّق استقلاله.

«يحقُّ لنا أنْ نصنعَ الكثير من قراراتنا ولا أحبُّ أن أُدفعَ إلى قراراتٍ ليستْ من صُنعي».

سندركُ أنَّ الخوفَ هو علاجُ كلِّ الحالاتِ. الخوف من مصير فيرونيكا، وشبحُ الموتِ الذي يقتربُ منها رويدًا رويدًا بخطواتٍ بطيئةٍ مُتثاقلة يدفعُ المرضى إلى البحثِ في ذواتهم عن سببِ أمراضهم النَّفسية، ليصبحَ همَّهم الوحيدُ هو: الشِّفاء.

«الوعيُ بالموتِ يشجعنا على الحياة بكثافةٍ أكثر».

لقد حصلوا على استقلالهم التَّام، وأصبحوا جاهزين لمجابهة حياتهم بعد العلاج.

«لسنا في حاجة لأن نشرح حياتنا أو أنفسنا لأيِّ شخص كان».

من وجهةِ نظرٍ إسلاميّة، أو دعونا نُسمِّها صوفيّة، فيرونيكا لم تكُن تؤمنُ بوجودِ الله، ولم تقتنع بجلساتِ الصُّوفيّة في المستشفى الّتي كان يحضرها من يُطلقون على أنفسهم الأخويّة (مجموعة أشخاص من النّساء والرّجال الّذين يُمكنهم الرَّحيلُ والعودة إلى منازلهم متى شاؤوا؛ ولكنَّهم يرفضون المُغادرة). عندما تكون روح الإنسان تعيسة وفارغة من الدَّاخل، تتسعُ الهوَّة بينه وبين خالقه، وهذا قد يكون ما حدثَ معها.

بعد قراءتك الرِّواية ستبحثُ عن أحدٍ ما ليكذب عليك كما كذب على فيرونيكا وأوهمها بمرضِ قلبها الّتي بسببها تمسَّكت بحياتِها وبحبِّها.

قد تسألُ نفسك: كم عدد المرَّاتِ الّتي فكَّرت فيها أن تنتحر؟ كم مرَّةٍ رجوتَ الموت؟ هل حاولت؟

شخصيًّا، تمنَّيتُ لو أنَّ بإمكانِ المرء أن يختارَ الموت حين لا يعد هناك ما يشغلهُ في الحياة؛ ولكن عليك أن تتحلَّى بالصَّبرِ وأن تملكَ الإرادة الكاملة إنْ أردت أن تقودَ حياتك. في النِّهايةِ لا أحد يعرف شيئًا عن الموتِ وعن الضِّفةِ الأخرى من العالم اللّامرئي أو اللّامنظور. عليك اكتشاف ذلك بنفسك.

«النَّاس لا يتعلَّمونَ أيَّ شيءٍ يُخبرهم به الآخرون، عليهم أن يكتشفوا ذلك بأنفسهم».

مُحاولةُ الانتحار الخائبة، قد تكون طريقتنا في العودةِ من جديدٍ إلى الطَّريق الصَّحيح. فالانتحار هو: مُحاولة فهم الموت!

عش حياتك كأنَّك تموتُ غدًا، وعندئذٍ سيكون لها معنًى.

# فيرونيكا تقرر أن تموت By محمود قحطان،

محمود قحطان

مدقق لغوي، وشاعرُ فُصحى، ومُهندسٌ مِعماريٌّ. أحد الشُّعراء الَّذين شاركوا في موسم مُسابقة أمير الشُّعراء الأوّل في أبوظبي، حيثُ اختير ضمن أفضل مئتي شاعر من ضمن أكثر من (7500) شاعرٍ من جميع أنحاء العالم. نُشر عددٌ من إنتاجه الشّعريّ في الصّحفِ المحليّة والعربيّة، وأصدرَ أربعة دواوين شعريّة وكتابًا نقديًّا. مؤمنٌ بالفكرِ الإبداعيّ وأنّ كلّ ذي عاهةٍ جبّار.

مقالات ذات صلة

‫6 تعليقات

  1. باولو كويلو من أعظم المؤلفين حاليا، والجميل في كتاباته أن لديه فلسفة خاصة يعبر بها عن الحياة ويصف الأحداث داخل الرواية بشكل جميل جدا يجعلك تنفصل عن العالم الحقيقي وتعيش داخل الرواية مع ابطالها

  2. “الحياةُ لا تعطِ كلَّ شيء.”
    “وحدهم الأبطالُ والمجانين لا يخافونَ الحياة أو الموت ولا يبالونَ بالخطرِ وسوف يمضون قدُمًا بالرَّغمِ ممَّا يقوله الآخرين”.
    “إذًا مُحاولة إنكار ذواتنا في سبيلِ إرضاءِ الآخرين، هو نوعٌ من أنواعِ مُعاقبةِ النَّفس.”
    “نحتاجُ إلى الثِّقةِ بأنفسنا، وتقديرها، إلى حبِّها وقبولها كما هي، دون أن نُلغي إرادتنا.”
    “إن الجنونَ هو العجزُ عن التَّعبير عن أفكارك”.

    اعجبتني كثير كثير كثير

    “لسنا في حاجة لأن نشرح حياتنا أو أنفسنا لأيِّ شخص كان”.

    تعبت وأنا أقتبس , الاقتباسات اللي اخذتها من الكتاب جداً جميلة, اقتبست كثير اعجبني واضطريت احذف منه حسيتني قلبته موضوع ثاني بس مختصر
    الرواية قصتها غريبة نوعاً ما وفيها جزء مبهم بالنسبة لي ما وصلتني فكرتها كاملة ما أدري انا ما فهمتها كويس أو الرواية مبهمة عموماً أعجبتني العبارات حسيتها قصيرة لكن معبرة, استمتعت بقرائتك كثير وبترتيبك ما بين سرد القصة والاقتباس , ننتظر منك قراءة جديدة وتفتح النفس مثلها
    يعطيك العافية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!