Site icon محمود قحطان

يا أيتها الآلهة والأرواح، وجهوا روحي الكئيبة إلى الجنة

يا أيتها الآلهة والأرواح، وجهوا روحي الكئيبة إلى الجنة

يا أيتها الآلهة والأرواح، وجهوا روحي الكئيبة إلى الجنة

يا أيتها الآلهة والأرواح، وجهوا روحي الكئيبة إلى الجنة

[الشّمعة السّادسة].

الشّمعة السّابعة.

في كلٍّ منّا –إضافةً إلى أجزائهِ الأُخرى- جزءٌ قَذِرٌ وبذيء، كانت المرأة جزئي البذيء وتُهمتي الأولى! بسببها هُدِّدت بإخراجي من المدرسة والتّرحيل إلى قريتنا لأرعى الغنم، بسببها غامرتُ بنفسي وخاطرتُ بوجودي لأركب سحابة الخطيئة، بسببها خسرتُ كثيرًا من نفسي؛ ولأنّني رجلٌ، فهذا يعني أنّ لي مزاجي الّذي يتغيّر من حينٍ إلى حين، ولي رغباتي الّتي قد تختلفُ في أيّ ساعة، ولي ذوقي الّذي تعتريه كثيرٌ من المعتقداتِ الجديدة، تمامًا ككلّ البشر.

كلّ يوم يمر عليّ أربح فيه خبرة جديدة بنكهةٍ ولون جديد.

التّناقضُ جزء لا يتجزأ من الإنسان، والإنسان الثّابت على منهجٍ واحدٍ ليس إنسانًا، هو أقربُ إلى الصّورة الجميلة الّتي تُبهجنا أوّل الأمر حتّى نعتادها، فنملّها! ولأنّ المرأة ليست كائنًا ملائكيًّا؛ ولأنّ النّساء مُختلفاتٍ كالمدن لها ألف سائح؛ ولأنّ النّماذج النّسائيّة كثيرة، وكلّ امرأة تُصادفها تدفعك إلى تكوين فكرة حولها ومن ثمّ تتّخذ موقفًا تجاهها؛ لأجل ذلك تتعدّد مواقفك مع المرأة وتختلف، وهكذا كان الحبّ عندي، لم يكن نقطةً ثابتة ومُستقرّة، لا يهتزّ ولا يضطرب ولا تشوبه الموبقات، أو أنّه لا يتأثّر بالضّغط الجوي أو ارتفاع درجة الحرارة! فالحبّ الكبير ليس حجرًا يستحيل تحريكه كي لا ينهار الإنسان. الحبّ موجة، تارّة يُحلّق بنا إلى أعلى منافذ السّماء، وتارة يخسف بنا إلى أدنى دركات الأرض، ومتى صار الحبّ عادةً يوميّة احتضر؛ لذلك أنا أُكَذِّبُ من يقول: إنّ الحبّ عميق كالجذور، فما أكثر الجذور الّتي نقصّها، بل نخلعها من مَنبتها.

هكذا، تستمرُّ الحياةُ، تمرُّ السّنوات وعلى أعيننا غشاوة هلاميّة لا يُمكننا تحديد ما تحجبه، تكبرُ فينا الطّفولة وتقتربُ من عجزها، فتموتُ البراءةُ، ويظلّ الإنسان في عجلةٍ مُغلقة ما بين الدّين والعقل والقلب والجنس والجنون!

قبل أن أبلغ الثّلاثين، لم أُهزم قط، لم تستطعِ الحياةُ أن تأكلَ من وجهي، ولم تستطع أن تذلّني؛ ولكن بعد أن ضربتني ضرباتٍ مُتكرّرة ومُتلاحقة، هُزمت. في سبعِ سنواتٍ أعيشُ في مُحيطٍ من المُعاناةِ النّفسيّةِ والجسديّةِ والاجتماعيّة، فقدتُ كلّ شيء: المال، والأصدقاء، وزوجتي، وولديَّ، وفقدتُ عائلتي. ومهما صرختُ بأنّني لن أموت على هذه الصّورة، اكتشفتُ أنّني أُصبتُ بلعنةٍ لا شفاءَ منها ولا موت!

النّاسُ تطعنني، والأهلُ والأصحاب، والقدرُ. وبعد أن كُنتُ سيّد نفسي صرتُ في احتياجٍ دائمٍ للآخرين، والنّارُ الّتي تشتعلُ في بطني حرقتني، وإحساسي بالشّرف والكبرياء تدنّى إلى أدنى قيَمهِ، وقتئذٍ تمنيّتُ أن أقتلَ كلّ من أراه!

كنتُ أعرقُ دمعًا إذا ما تذكّرتُ ماضيّ الجميل، وحياتي الطّموحة، وأساور الذّهبِ الّتي لفّت رقبتي.

لم أكُن أحبُّ أن أُظهرَ نفسي، أخشى أن يُفسّرَ سلوكي بالكبر، كنتُ أُظهرُ الاحترام وأؤمنُ أنّ هناك شخصًا ما أفضل منّي دائمًا، المُهمُّ عندي ألّا أخسرَ نفسي؛ وبسبب اعتدالي ومعرفة مكاني وحجمي في هذا العالم؛ أحبّني الآخرون. يُمكن أن نعدّها موهبةً فطريَّةً، وأذكرُ وأنا في سنّ الثّالثة عشرة، قالها لي أحد الأساتذة السّودانيين: «لديك موهبة في أنّ كلّ من يتعرّف إليك يُحبّك» وما زلتُ ألمسُ هذا الشّيء في علاقاتي مع الآخرين، لا أتحدّث عن العلاقات الهاتفيّة، أو علاقات مواقع التّواصل الاجتماعي وأشباهها، إنّما المُواجهة، فلا شيء يُزعجني أكثر من الاختباء، أحبُّ المُواجهة ولا أخشاها، أحبُّ أن أرى وجهَ من أحدِّثهُ، وأتعرّف إلى سلوكه؛ لذلك كنتُ أكره أحاديث الهاتف مع الفتياتِ أيّام الجامعة، وأكرهُ (الشّات)، وأكرهُ أيّ تواصلٍ مع فتاةٍ أو فتى من الأصدقاء دون أن أراه.

رُبّما يظهرُ هذا في شِعري: الوضوح، وقول ما في النّفس من دون مُواربة، وربّما لهذا السّبب قيل إنّني جريءٌ في شعري، وأصلُ إلى مرتبة إثارة الحياء. أذكرُ أوّل صحيفة (آدم وحواء) أرسلتُ لها نصًّا لنشره كان نصًّا بعنوان: رسائلُ من امرأةٍ عاريةٍ، وانتظرتُ إلى أن قرأتُ رسالةً من رئيسة التّحرير في العدد الّذي كان من المُفترض أن يُنشرَ النّصّ فيه، تطلبُ منّي الاتّصال بالصّحيفة، وعندما اتّصلتُ وضّحتْ لي صعوبة نشر النّص المُرسل نظرًا لجرأتهِ –بحدّ تعبيرها-، لا أُنكِرُ أنّني سعدتُ وحزنتُ في الوقتِ نفسه، أسعدني أن يكون للنّصّ هذا الزّخم من الاختلاف في تقييمه، حتّى وإن كان تقييمًا سلبيًّا، فشعورك أنّ ما تكتبه يُثير جدلًا ما؛ يرفعُ اعتزازك بنفسك وغرورك درجةً، وأحزنني ألّا يُنشر؛ لأنّ رأي رئيسة التّحرير يظلّ رأيها الّذي –بالتّأكيد- سيختلفُ بعضُ الآخرين معه. طلبتْ رئيسة التّحرير منّي زيارتُها في مقرّ الصّحيفة، وعندما التقيتُها دافعتُ عن النّصِّ إلّا أنّها لم تقتنعْ ولم يُنشر، واضطررتُ إلى استبدالهِ بنصٍّ آخر أقلّ حرارة!

الآن، بعد مرور سنوات طوال زادت فيها خِبرتي ونضجَ وَعيي وتطوّر أسلوبي الشّعري تطوّرًا كبيرًا بفضل زيادة مواردي الأدبيّة الّتي رفعت من ثقافتي، عندما أعودُ إلى بعضِ نصوصي السّابقة الّتي كتبتُها في فترةٍ من فتراتِ حياتي، يُحرجني مُستواها الأدبي المُتواضع؛ ومع أنّ هذا الشّيء واردٌ في مجالِ الشّعر والكتابةِ عمومًا (أي: أن يُصاب الكاتب بخيبةٍ رجعيَّةٍ ممّا كتبَ)؛ إلّا أنّني ما زلتُ أحتفظُ بتلك القصائد لارتباطها بنفسي، فنحنُ نُحبُّ تجاربنا الأولى؛ ولكنّني لا أُسوِّقُ لها.

توجدُ حركتان في هذه الدّنيا: حركة صاعدة وحركة تجرفك إلى الأسفل كمن ينظر إلى الوراء في المرآة. تعلّمتُ أن يكون تحرّكي من النّوع الصّاعد، فالعودة إلى الوراءِ تأخّرٌ حضاري، وضعف، وقلّة ثِقة؛ إلّا أنّهُ بعد فقدي لكلّ شيءٍ قبلَ سبعِ سنواتٍ، أصبحت الحياةُ في تَعَسٍ مُستمرٍّ. كُنتُ غضًّا وطريًّا لم تجرحني الحياةُ ولم تلوّثني بزيفها. كُنتُ صغيرًا على العِراك؛ لكنّني صرتُ قبيلةً –الآن- يُمكنها خنق الفضاءِ واعتلائهِ.

هل كان حُزني هو قدري الجديد؟ هل تحوّلت آمالي إلى صورٍ مُؤجّلةٍ تحتاجُ لقطاتها الّتي يُغلّفها البؤس إلى الإظهار؟

تصوّرتُ –كغيري- أنّني مُخلَّدٌ في سعادةٍ أبديّةٍ، حتّى وإن تكدّست حياتي ببعضِ العقباتِ الصّغيرةِ؛ إلّا أنّني ما تصوّرتُ يومًا أن أكون أنا المَسْكَنَ الجديدَ للحُزن.

قبل سَبعِ سنواتٍ، كانتِ الحياةُ مُلوّنةً، كنتُ أمشي على قوسِ قُزحٍ، أكتبُ الشّعر وأنشده: «لا نوم بعد اليوم»، هكذا كنتُ أصرخُ بعنادِ حُنجرتي وبصوتي الّذي لم يتعدّى ربع (الأوكتاف)، هكذا كنتُ أصنعُ فرحي ومُستقبلي الّذي ما آثارَ سوى حسدِ الضُّعفاء والمُقرّبين من منفايَ الجديد.

في ذلك الوقت، كلّ شيءٍ كان مُمكنًا، أن تمشي عاريًا في شوارعِ المدينةِ، أن تُلقي نفسك في عيونِ حبيباتكَ القُدامى وبين أثدائهنّ تتنفّسُ عبق النّشوّة والرّاحة، أن تُظلّلَ رحلتك ببعضِ الخطايا الّتي لن تجعل منك أسوأ أو أفضل، هي ستعُلّمك أنّ كلّ شيءٍ مُباح مادام ضمن نطاقك الحدودي فحسب.

أتساءلُ وأنا أرى كيف يلعبُ القدر بأوضاع البشر، هل يحقّ لي أن أسالَ الله لماذا؟ هل يحقُّ لي أن أمدّ يدي عاليًا لأمسك بعنق هذا القدر لأسأله عن الآلام الّتي يُسبّبها للنّاس حين تضجُّ أحلامهم بهم، ويعلو سقف طموحاتهم إلى أقصى منافذِ المُستحيل؟ هل يُمكنُ أن أُحاكمَ القاضي حين يكون مُتّهمًا بوضع الحجارةِ مكان الأعين، والأحذية مكان الأدمغة؟ كيف تسقطُ ورقة التّوت الّتي تسترنا بيدِ الله؟ كيف يُمكن أن نكون موضوعيّين إزاء الشَّر الّذي يطالنا؟ لماذا نقفُ –دائمًا- في مُنتصف الطّريقِ فإمّا أنْ نعود إلى الوراء وإمّا أن نظلّ منحوتاتٍ جليديَّةٍ مُختبئةٍ خلف إنسانيّتنا المُغتصَبة؟

في هذه الحياة لا خيار لك، لا يُمكنك الرّفض وإلّا لاتُّهمتَ بدخولك إلى المِنقطة الحرام الّتي تقتاتُ من ضمير كلّ من يقعُ فريسة صراع كريّاته البيضاء مع الحمراءِ فلا يلبثُ إلّا أن يسقطَ من الجولة الأولى! جميع الخطوط والظّلال الّتي تُظلِّلُ حيواتنا لا تقبل الرّفض، لا تُريد كلمة (لا) أن تعلو، تُريدنا مُذعنين إلى نكهة الرّائحة من دون القدرة على شمّها! تُريدنا أن نظلّ أنابيب اختبارٍ في مُختبرها الغرائبي العجيب، أن نبقى طحالبَ لا تُجيد النّظر.

مَعركتي مع الحياةِ هي معركةُ كلّ الّذين وُلدوا أحرارًا. أنا لستُ أجزاء عضويّة مُفكّكة، أو شراشف بلّلها المطرُ وتنتظرُ أن تجفّ لتُحلّق أطرافها الحُرّة من على حبلِ الغسيل! أنا رجلٌ هادئٌ ووقورٌ أومنُ بقداسة الله، وأومنُ أنّ لديّ جينات وراثيّةٍ صالحة لمُقاومة الاشتباك الحاصل في ذِهني، ونفسيّتي، ومُقاومة التّغيير الّذي احتلَّ زَمني، ومكاني. ما زال في وعائي نَزَقٌ جنونيٌّ يكفيني مؤونة فتح رئتيَّ على مصراعيها، فأنا أرفضُ أن يأكلني التّاريخُ لأظلّ ضريحًا مُشوّهًا في ذاكرته!

يُنفِّذُ القدرُ إرادة الله، قد لا يُوافق القدرُ على ما قُدِّرَ له؛ لكنّهُ سيُنفّذه، ومهما استعطفتَ القدر وتوسّلتَ له وبَكيتَ أو حاولتَ إثارة شفقته تجاهك؛ لينساك، لا شيء يمنعنه من تنفيذ ما قُدِّرَ له، سيُطاردُك إن هَربت، وسيُقاتلك إن قاتلته، وإن أطلقتَ على رأسهِ النّار سيردُّ عليك، فتَحْتَ مشيئة الله لا يُمكنهُ أن يتردّد، فهو الفاتورة الّتي عليكَ سدادها، الّتي لا يُمكنك أن تتجاهلها ولا سبيل لك للخلاص منها إلّا بسدادها، فللقدر أيادٍ كثيرةٍ في كلّ ركنٍ وتفصيلةٍ في حياتك، وله سطوة  تمتدّ إلى ما لا نهاية، حتّى ولو شوّهت وجهك، أو أفسدتك، يظلّ تكفيرًا لذنوبك، نعم، إنّها مأساةُ الحياة!

… يُتبع،

Exit mobile version