البدايات القوية
يقولُ الحكماء: «من كانت له بداية محرقة، كانت له نهاية مشرقة». هذه ليست مجرّد مقولة عابرة؛ بل هي قانون كوني أثبتته تجارب العظماء. فما البدايات القوية؟ إنّها تلك اللّحظات الّتي يُقرّر فيها الإنسان، في وجه الرّفض أو الفشل، ألّا يستسلم، بل أن يبدأ من جديدٍ بعزيمةٍ لا تلين. وفي تاريخنا قصّةٌ تُجسّدُ هذا المبدأ ببراعة، وهي قصّة الإمام محمد بن الحسن الشّيباني، الّتي تُثبت أنّ قرارًا حاسمًا واحدًا يُمكن أن يغيّر مسار حياة بأكملها.
رحلة الأمل والرّفض الأول
تخيّل شابًّا طموحًا، يقطعُ مسافاتٍ طويلةً، وفي قلبه شعلةٌ منَ الأملِ. كان هدفه واحدًا: أن ينهل من علم إمام زمانه، الإمام أبي حنيفة في بغداد. وصل الشّاب محمد بن الحسن إلى حلقةِ العلم، وكلّه شوقٌ ليكون تلميذًا في هذا الصّرح العظيم.
لكن ما واجهه لم يكن ترحيبًا، بل كان سؤالًا يسيرًا وحاسمًا: «أتحفظُ القرآنَ؟». كانت إجابة الشّاب الصّادقة بالنّفي سببًا في صدمتهِ الكبرى. قيل له بوضوح: «عُد إلى أهلك، فاحفظ القرآن أولاً ثم ائتنا، فإننا لا نقبل في حلقتنا إلا من يحفظ كتاب الله».
في تلك اللّحظة، كان من المُمكنِ أن تنطفئ شعلة الأمل، وأن يعودَ الشّابُ بانكسارٍ وخيبةِ أمل، معتقدًا أنّ هذا هو قدَره. لكن ما حدث بعد ذلك هو ما يصنعُ الفرقَ بين الشّخص العاديّ والعظيم.
إذا انقطع الإمداد انقطع الوداد
نقطة التّحوّل: قرار يصنعُ العبقريّة
كان إزاء محمد بن الحسن خيارين سهلين: إمّا العودة إلى دياره مهزومًا، أو نسيان حلمه والعمل في أيّ مهنةٍ أخرى. لكنّه اختار طريقًا ثالثًا، طريق العزيمة والتّحدّي.
بدلًا من العودةِ، ذهب إلى مسجدٍ قريبٍ، واستأذنَ إمامه في أن يمكثَ فيه لمدةِ أسبوع واحد فقط. لم يكن هذا الأسبوع للرّاحة أو التّفكير، بل كان لمهمّة تبدو مستحيلة: حفظ القرآن الكريم كاملًا. لقد عزل نفسه، وكرّس كلَّ لحظةٍ وكلَّ نفسٍ في هذا الهدف الأسمى.
بعد أسبوع واحد فقط، حدثت المُعجزة الّتي صنعها الجهد البشريّ. عاد الشّابُ نفسه إلى حلقةِ أبي حنيفة، وعندما سُئل عن سبب عودته، كانت إجابته قويّة ومزلزلة: «لقد حفظتُ القرآن». اختبروه، فوجدوه قد أتقن الحفظ حفظًا مذهلًا. ومن هنا، فُتحتْ له الأبوابُ الّتي أُغلقتْ في وجهه.
كيف أعادت البدايات القوية برمجة عقله؟
لم يكن حفظ القرآن في أسبوع مجرّد إنجاز في الحفظ، بل كان إعادة برمجة شاملة لقدراته العقليّة. إنّ هذا الجهد المكثّف والتّدفّق القرائيّ الهائل الّذي أدخله إلى عقلهِ فعل ما يأتي:
- نشّط الخلايا الخاملة: أجبر هذا التّحدّي عقله على العملِ بطاقةٍ لم يعهدها من قبل؛ ما أيقظ قدرات كانت في سباتٍ عميق.
- كسر الحواجز النّفسيّة: لقد أثبت لنفسه أنّه قادرٌ على تحقيقِ ما كان يظنّه مستحيلًا، وهذا بحدّ ذاته يزيل أيّ عائقٍ نفسيٍّ مستقبليٍّ.
- رفع سرعة الاستيعاب: بعد أن استوعبَ عقله هذا الكمّ الهائل من المعلوماتِ المقدّسةِ في وقتٍ قياسيٍّ، أصبح استيعاب أيّ كتابٍ أو علمٍ آخر أمرًا في غاية السّهولة.
لقد أصبح أيّ شيءٍ يسمعهُ أو يقرأه يُحفظ من مرّةٍ واحدةٍ. هذه لم تكن كرامة خارقة، بل كانت نتيجة طبيعيّة ومنطقيّة لبدايةٍ قويّةٍ ومحرقة.
الدّرس المستفاد من البدايات القوية: عزيمتك هي كنزك الخفيّ
لم يصبح محمد بن الحسن تلميذًا عاديًّا، بل أصبح بعد وفاة الإمام أبي حنيفة خليفته الأوّل وأحد أعظم علماء عصره. قصّته تُعلّمنا درسًا خالدًا: إنّ البدايات القوية لا تحقّق لك هدفك المباشر فحسب، بل تطلق العنان لقدراتٍ كامنةٍ لم تكن تعلم بوجودها.
في المرّة المُقبلةِ الّتي تُواجه فيها بابًا مغلقًا أو تحدّيًا يبدو صعبًا، تذكّر هذه قصّة البدايات القوية. لا تنظر إليه على أنّه نهاية الطّريق، بل انظر إليه على أنّه فرصةٌ لصناعة بدايتك القويّة. إنّ العزيمة الصّادقة والجهد الخارق قادران على تحويل أكبر نقاطِ ضعفكَ إلى أعظم مصادر قوّتك.
# البدايات القوية: كيف حولت قصة محمد بن الحسن طالبًا مرفوضًا إلى عالم زمانه؟ By محمود قحطان،

