مقالات في العمارة والأدب والحياة

الشمعة الثامنة

الشمعة الثامنة

أنا.. أُشبهُ أُغنيةَ الحُزنِ الذي تسيلُ لهُ ذرَّاتُ الوَجَعِ الخَانقْ، وَرِثْتُ رُؤىً غيرُ مرئيةْ، وعينينِ سائلتينِ، يلفُّهمَا الألمُ قبلَ أنْ يأتيني الخبرُ من شفتـيَّ الباردتينْ، ولأنَّ القلق القاسي الّذي حُفِرَ عميقًا في خلاياي؛ يحرقُني، يئنُّ بدَاخِلي يطفُو كمَجرَّةٍ تصرخُ في حُنْجُرَتي؛ سأُطفئُ معِي الشمعة الثامنة!

هل جرّبتَ أن يسيرَ أحدهم على قبركَ وأنتَ حي؟

ثمّة لحظةٌ وجيزةٌ جدًّا بين الحياةِ والموتِ، في هذه اللّحظة تُلقي الحياةُ وجهَها الكئيب على وجوهنا، فنلبسهُ حتّى يصيرَ جزءًا من شخصيّتنا، وإن حاولنا التّملّص منها اتُّهمنا بالشّذوذِ أو الجنون! وصارت جميع المَلابس الّتي نرتديها شَكلًا هُلاميًّا، فتختلطُ الأشياء: الجُبّة إلى جانب (المايوه)، وبنطلون (الجينز) إلى جانب الطّربوش، و(الميني جيب) إلى جانب العباءة.

  هذهِ هيَ الفترةُ المُحزِنة، بَئيسٌ ذلك الوقت الّذي تأتي فيه شياطينُ النّدم، عندما تقفُ الحياةُ تجاهكَ وتقول باستهتارٍ: عُذرًا، ما عادَ باستطاعتي إسعادك –بعد الآن- أكثر. يجبُ أن ننفصلَ، يا حَبيبي، إنّني أهجرُك!

كانتِ الحياةُ إزائي، وفي أقلّ من ثانيةٍ تخَلّت عنّي كسُنبلةٍ حان قِطافها؛ لترمي شباكها على شخصٍ آخر يُشبهني، له الجُمجمة نفسها؛ إلّا أنّ روحه تختلف، على الأرجح تخدعهُ كما خدَعتني، تُوهمهُ بالخُلودِ، وتَفرشُ له قَمرًا تتوسّطهُ نافورة من عَسلٍ، وتلفُّ حوله أساور الشّمس. أتساءلُ الآن: هل أحبّتني الحياةُ حقًّا؟ وكيف يبدو هذا الحبّ؟ وهل يَزول؟

لا أريدُ أن أتخيّلَ الأمرَ أو أفكّرَ فيه، بالتّأكيد؛ سيكون سيّئًا!

موضوع مُميّز: [الشّمعة السّابعة].

هو حادثُ تصادمٍ، بدايةُ الانهيار الحقيقيّ، ومهما ضغطتَ المكابحَ؛ فإنّك -في نهايةِ الأمر- ستنزلقُ نحو تأثيرٍ يُطيحُ بكَ وبمَن معك. أمرٌ مُضحكٌ ما يدورُ في عقلكَ في وقتٍ كهذا، كلُّ شيءٍ ينهارُ: الوعودُ الّتي قطعتُها، والنّساءُ اللّاواتي غازلتُهنّ يومًا، والجِنسُ الّذي عرّفني كيف أتلاءمُ معَ تضاريسِ الأرضِ، وزَمَنِ الإنجابِ الأخضر.

أعيشُ وحيدًا الآن، بعيدًا عنِ النّاسِ، والأصدقاءِ، والأحبّةِ، في قعرِ كُتلةٍ خرسانيّةٍ تُسمّى غُرفَة، لي منها مترٌ في مترين. فراغٌ باردٌ يُغلّفُني، يبحثُ عن أغطيَةٍ، وطريقٍ ليُخرجَ جَسَدي العَاجز عن الحركةِ من القالبِ المَعدَنيِّ الّذي دُفِنَ فيه خوفًا من هروبه.

هل يثورُ الجَسَدُ، أم يبقَى كالخرافِ الّتي تنتظرُ الذّبح ليلة العِيد؟ هل يُمكنُ أن يُنِبتَ غابةً من التّفّاحِ إذا قضَمَ إحداها لم تطردهُ الحياةُ؟ هل يلسعُ نفسه في ظهرهِ كالعقربِ إذا حاصرتهُ النّيران؟ أم ينتحر كحصانِ أرسطو ويُلقي بنفسه في وادٍ سحيقٍ عندما اكتشفَ خديعةَ الحياة؟

ما فائدةُ التّمائم الّتي نُعلّقها فوقَ رقابنا، والأحجبة الّتي نضعها تحتَ وسائدنا، وقبور الأولياء الّتي نزورها مُقتنعِين ببركاتِ أصحابها، إنْ كان كلّ شيءٍ مُعدّ سلفًا؟

في الأشهرِ الأُولى الّتي تلَت الحادثَ اللّعين، حاولتُ أن أفهمَ ما حدَث. أن أُدرِك الّذي ضاعَ منِّي إلى الأبد، لمَ حدَثَ ذلك؟ الأمرُ هزليٌّ. الآن؛ عندما أُعيدُ التّفكير، أستنتِجُ أنّني كنتُ وقتئذٍ في غيبوبةِ اليَقظة!

عندما التهمتْني الحياةُ وأكلت قلبي ويديًّا، كنتُ مثل RICHARD PARKER عالقًا معَ عددٍ من المَلائكةِ فوق سفينةٍ غرقى، لا شيءَ إزاءنا غير الأفق والوعد بالجنّةِ؛ إلّا أنّ الطّعام الّذي نفِد، والماء الّذي اختلطَ بملوحةِ البحرِ، حوّلنا، غيّر كلّ ما فينا وشوّهنا، وعندما اقترحتُ أنا أن نأكلَ بعضنا، وراهنّا على الضّحيّةِ الأُولى، خسرتُ الرّهان، وكنتُ أوّل من أُكِل!

سألتُ الحياةَ مرَّة:

– لمَ تفعلينَ ذلك؟

– أنتَ لم تفهمْ. من الرُّعبِ يُولدُ الجَمال!

إلى هذا الوقت، ما زلتُ أبحثُ عن الجَمال الّذي يقيئهُ الرّعب!

يُتبع…

محمود قحطان

باحثُ دراساتٍ عُليا، وشاعرُ فُصحى، ومُدقّقٌ لغويُّ، ومُهندسٌ مِعماريٌّ استشاريٌّ. أحد الشُّعراء الَّذين شاركوا في موسم مُسابقة أمير الشُّعراء الأوّل في أبوظبي، حيثُ اختير ضمن أفضل مئتي شاعر من ضمن أكثر من (7500) شاعرٍ من جميع أنحاء العالم. نُشر عددٌ من إنتاجه الشّعريّ في الصّحفِ المحليّة والعربيّة، وأصدرَ أربعة دواوين شعريّة وكتابًا نقديًّا. مؤمنٌ بالفكرِ الإبداعيّ وأنّ كلّ ذي عاهةٍ جبّار.

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!