طفيليات العمارة ومتسولوها
خطأٌ خطيرٌ أن يتصوّرَ عددٌ كبيرٌ من ‹‹طفيليّات العِمارة ومُتسوّليها›› من الأشخاص العاديّين والمُلّاكِ والمُهندسين ذوي التّخصّصات المُختلفة: (الإنشائي، الكهربائي، الميكانيكي)، في أنّ العِمارة طابورٌ طويلٌ من العَدمِ يقفُ فيه كلّ من يُريد أن يُوصفَ بالابتكار.
مهما كان المُنتفِعُ جيِّدًا، يظلُّ عاجزًا عن اقتحامِ الورقةِ؛ ليُرسمَ بنصفِ خِبرةٍ ونصفِ شهوةٍ وربع خيال! هي حالةٌ من فقرِ الدم، ولا يُمكن التّخلص من هذه الحالة حتّى وإن ابتلعَ عشراتِ الكُتبِ ومئاتِ التّصاميم، وفي غالب الأمر لا يحتكّ الطُفيليّ بالعمل المِعماري إلّا على مَرتبةٍ ثُنائيّةِ الأبعادِ فقط، فما زالت الأبعاد الثّلاثيّة تُربكه، وتكسرُ عنفوانه الأخرق.
نعم، إنّ للعِمارةِ سحرًا يُثيرُ شهيّة كلّ المُتسوّلين الّذين ألقت بهم المُصادفة على طريقِ البناء؛ إلّا أنّ العِمارة ليست امرأةً حسناء يتمسّح فيها كلّ المُرتزقين والمُتحرّشين كي يرضوا غرورهم، فنكتشفُ أنّنا إزاء انفلاتٍ أخلاقيٍّ وعلميٍّ، وإزاء نوعٍ من التّطبيع المُصطنع. الظّهورُ المُستمرُّ لهؤلاء يدلُّ على أنّ لديهم خللًا في تركيبتهم النّفسيّةِ، والثّقافيّةِ؛ فمن يستهين بعملِ المِعماري ويسخرُ منه، لا يعرف شيئًا عن وظيفة العِمارة.
صحيحٌ أنّ المَبنى المِعماري –كالشّعرِ- يُمكنُ أن يُصَمَّم بصيغٍ مُختلفةٍ وبمزيدٍ من الاحتمالاتِ؛ إلّا أنّهُ لا مُجاملات في العِمارةِ، فنحنُ لا نقبل الغشّ والاحتيال من الّذين يفترسونَ أماكنَ المِعماريّين وزمنهم، فالمُصادفةُ وحدها هي الّتي ترمي بهؤلاء عند الإشارةِ الخضراء ليُواصلوا رحلتهم من دونِ أن يُفكّروا في تخفيفِ السّرعةِ أو التّوقّفِ عندما لا يعود مُحرّك أدمغتهم، يعمل.
الكلُّ مِعماريّون، الكلُّ مُصمّمونَ، وفي ذروةِ انفعالهم واشتغالهم بالعملِ المعماري يخلقون فراغًا باردًا، وبديلًا مُشوّهًا، يُفكّرون بسطحيّةِ المُبتدئِ وغيرِ العارفِ، ويُغنّونَ أُغنيةً واحدةً تتكرّر بصورةٍ رتيبةٍ وبنغمةٍ ناشذة، فيخلقون لنا أشكالًا بلا ملامح. هذا استخفافٌ بالعِمارةِ وبالمعماري؛ لأنّ المعماري يقضي سنواتٍ طويلةٍ من حياتهِ وهو يتعلّم ويُجرّب ليخلق نموذجه الخاص، وبَصمته المعماريّة الّتي تتطلّب كثيرًا من الجُهدِ والصّبرِ والالتزامِ في مُحاولةٍ للخروجِ من عباءةِ المِعماريّين الكبار، والهروبِ من مقياسِهم الإبداعي.
إنّ العمارةَ في أزمةٍ، نعم، تعيشُ العِمارةُ العربيّةُ أزمةً معرفيّةً، وتكنولوجيّة، تُغربِلُ كلّ المفهوماتِ الّتي التَحمتْ بجسدِ التّاريخ، ومثلما هربَ الشّعرُ بعيدًا من هموم البشرِ؛ فخسرَ جمهورَه، صار المفهوم المِعماري ظاهرةً عبثيّةً، وتهريجيّةً يركبُها كلّ راكبٍ دونَ تخطيطٍ؛ لتُسقطَ العِمارةُ من بورصةِ الإبداعِ إلى الشّارعِ؛ فتفقدُ نخبويّتها، وتصيرُ علكةً في فمِ كلّ من يعوم في بحرِ العشوائيّةِ.
جلّ ما أطلبهُ من الفضوليّينَ والمُنسدحينَ والمُتسوّلينَ على رصيفِ العِمارةِ، أن يُعطونا فرصتنا في حلِّ أزمةِ العِمارةِ من دونِ وساطةٍ خارجيّةٍ، وأن يتركوا العِمارة بسلام، ألّا يُثيروا أعصابها ويَخدشوا حياءَها، ألّا يخونوا أنفسهم وقُدراتهم وتخصّصاتهم بالتّمسّح بتخصّصاتٍ أُخرى، فموقفهم يُنافي القواعد والأصول والأعراف العلميّة. اجتهدوا في مجالكم وأبدعوا فيه، بدلًا من الهروبِ من ضعفكم ومُمارسة لياقتكم الزّائفة تحتَ العراء؛ ليُصبح إنجازكم الجاهليّ هو فضيحتكم الكُبرى قبالةَ أنفسكم، وقبالة من ترتكبون في حقّهم جريمتكم مع سابق الإصرار والتّرصّد؛ وإلّا، فيُمكننا –المعماريّين- أن نتفيقهَ في تخصّصاتكم وفي حياتكم الّتي لا تحتاجُ إلّا إلى عقلٍ من دونِ الفصِّ الأيمن!
# طفيليات العمارة ومتسولوها By محمود قحطان،

