تِقنيَّاتُ الشِّعر

تقنيات الشعر: التناص

تقنيات الشعر: التناص

يستمدّ كثيرٌ من الشّعراء ألفاظَهم ومعانِيهم من مَصادِرَ أُخرى كالقرآنِ الكريمِ، والحديثِ الشّريفِ، وشِعرِ السّابقين وأدبهم؛ ما يُسهم في تجميلِ ألفاظِهم ومَعانيهم، ويُساعدهم على بلورتِها في صورةٍ جميلةٍ في قوالبَ من التناص قد تقتربُ أو تبتعدُ عن تلكَ المصادر.

لم يسلمْ أحدٌ من الشّعراءِ من التناص، وهو: تداخلُ العِبَاراتِ وتقاطُعِها، حيثُ يُعيدُ الشّاعرُ كتابةَ المعنى أو اللّفظِ القديمِ أو الموروثِ بطريقةٍ تَخدِمُ الغرضَ الّذي من أجلهِ اعتمدَه. تتداخلُ المعاني في أبياتِهم ويتكرّرُ النّسيجُ الشّعريِّ في بعضِ المشَاهدِ؛ ما يُوحي بِقَبُولِ فكرةِ التناص وابتعادهِ عن قضيّةِ السّرقةِ لعدمِ تَعمّدِ الشّاعرِ ذلك، أو بمعنىً آخر، لعدمِ وعيهِ -في الغالبِ- بهذهِ العمليّة.

الشّاعرُ المجيدُ هو الّذي يستطيعُ الاستفادةَ من النّصِّ الأصليِّ وإيجادِ نوعٍ من الانسجامِ بينهُ وبينَ نصّهِ الجديدِ؛ بسبب أنّهُ مَهما حاولَ الشّاعرُ إخفاءَ تأثّرهِ بنصوصٍ سابقةٍ فإنّ مُحاولتهُ تحتاجُ إلى قُدرةٍ هائلةٍ وموهبةٍ فريدةٍ، وإلى اللّجوء إلى بعضِ مهاراتِ التّلميحِ والمجازِ والرّمزِ لإنتاجِ نصٍّ جديدٍ لا يكونُ للنّصِ الأصلي حضور فاعل وقويّ فيه.

أنواعُ التناص:

كلُّ تناصٍ له جذورَهُ المُستمدَّةُ من الموروثِ الثّقافي التّاريخي والتّراث؛ لذلك مهما حاولَ الشّاعرُ إبداعً صياغةٍ فريدةٍ من مُعطياتٍ قديمةٍ، لا يُمكنُ عزلَ صياغتهِ الجديدةِ عن السّياقِ التّاريخيِّ والاجتماعيِّ والثّقافيِّ للموروثِ الدّينيِّ أو الأدبيِّ أو التّاريخيِّ أو الأسطوريِّ لتلك المُعطياتِ.

1. التناص الدّيني من القرآنِ والسّنةِ

القرآنُ والسّنةُ من مَصادِرَ التناص والاقتباسِ المُهمّة وأكثرها ثراءً، فاعتمدَ كثيرٌ من الشّعراءِ على القرآنِ في استقطابِ الألفاظِ، واستوحوا من معاني الآياتِ كثيرًا من مَعانيهم. يُمكن أخذَ الألفاظِ كما هي لتكونَ إشارةً واضحةً إلى الآيةِ القرآنيةِ، أو يُمكنُ استلهامَ الأفكارِ والمعاني من النّصِّ القرآنيِّ الّتي تُنشئُ علاقةً مَا بينها وبين بعضِ الآيات. الأمرُ نفسه مع الحديثِ الشّريف، حيثُ يستوحي الشّاعر معنى الحديثِ الشّريفِ ويجعلهُ في سياقٍ شعريٍّ يخدمُ فكرتَهُ وغايتَهُ وغرضَه.  أشيرُ إلى إمكانيّةِ تناص الشّاعر مع بعضِ الرّموزِ الدّينيّةِ المسيحيّةِ مثلًا؛ ليدلّنا ذلك على أنّهُ في الشّعرِ العربيِّ يُمكنك التناص مع الفكرِ الإسلامي والدّياناتِ الأخرى.

مثال: قول الشّاعر عزّ الدّين المناصرة:

سأرتِّبُ عادتي في هذا البردُ المُوحشُ
وتكونُ في الصّحراءِ ملاذًا
حينَ عواصمهم تلقاكَ
بوجهٍ وسواسٍ خنّاس

حيثُ تناص الشّاعر مع قولهِ تعالى:

«من شرّ الوسواسِ الخنّاس».

فيُصوّرُ الوحشة والوحدة الّتي يعيشها الإنسانُ الفلسطيني حين تشيحُ بوجهها العواصم لتظلّ آلام الغربة وقسوتها تحفرُ ذاته.

أيضًا قول الشّاعر ابن شُهيد:

عَليهِ حَفيفٌ للملائِكِ أقبَلتْ
تُصافِحُ شَيخًا ذاكِر اللهِ تائِبًا

تناص مع معنى الحديث الشّريف:

«لا يقعد قوم يذكرونَ الله عزّ وجلّ إلّا حّفتهم الملائكة، وغشيتهم الرّحمة، ونزلت عليهم السّكينة، وذكرهم الله فيمن عنده».

وذلك للدّلالة على فضل ابن ذكوان ومكانته بين العلماء.

2. التناص الأدبي:

يقولُ أبو نواس:

«ما نطقتُ الشّعرَ حتّى حفِظتُ لستينَ من شواعرِ العربِ، فما بالك بالشّعراءِ».

لأنّ المعاني واحدةٌ إنّما تختلفُ في طريقةِ التّعبيرِ عنها فحسب؛ يُمكنُ حينئذٍ قبولَ اللّجوءِ إلى المُعارضةِ والتّقليدِ والسّيرِ على منوالِ الشّعراءِ القُدامى، بتضمينِ شطرٍ لبيتٍ، أو بيتٍ بأكملهِ، أو الإحالةِ ببعض الجُملِ والكلماتِ إلى أبياتٍ شعريَّةٍ أُخرى.

التناص الأدبي نوعان:

  • الشّعر

من أمثلتهِ للشّاعرة فدوى طوقان:

على أبوابِ يافا يا أحبّائي
وفي فوضى حطام الدّور
بين الرّدمِ والشّوكِ
وقفتُ وقلتُ للعينينِ: يا عينينِ
قفا نبكِ
على أطلالِ من رحلوا وفاتوها

حيثُ تناصَتْ الشّاعرةُ مع امرئ القيس حينَ وقوفهِ على أطلالِ حبيبتهِ الرّاحلة، إلّا أنّ الشّاعرةَ استبدلتْ أطلالَ الحبيبةِ بأطلالِ الوطنِ الّذي شُرّدَ أهله.

من أشهر الأمثلةِ المُعاصرة للتّناصِ، جدارية محمود درويش، فمثلًا حينَ يبلغُ اليأس -في نفس درويش- مداه، يقول:

باطلٌ… باطلُ الأباطيلِ باطلْ
كلّ شيءٍ على البسيطةِ زائلْ

حيثُ تناصَ دوريش مع بيتِ لبيد بن أبي ربيعة:

ألا كلّ شيءٍ ما خلا اللهُ باطلُ
وكلّ نعيمٍ لا محالةَ زائلُ

  • الأقوال والأمثال

وهو اللجوءُ إلى ما تداولتهُ العربُ من أقوالٍ وأمثالٍ خلّدتها في موروثِها الثّقافي.

مثلًا كهذا المثل: (بكلّ وادٍ بنو سعد). حيثُ استحضرهُ الشّاعر ابن شُهَيْد في قوله:

يَودُّ الفَتى منْهلًا خالِيًا
وسَعْدُ المنيَّةِ في كلٍّ وادِ

ويُمكن للشّاعرِ اللجوء إلى الأمثالِ العاميّةِ أيضًا.

3. التناص التّاريخي

في هذا النّوعُ من التناص، يستدعي الشّاعرُ الشّخصيّاتِ والأحداثِ التّاريخيّةِ والأماكنِ الأثريَّةِ في مُحاولةٍ لربطِ هذا الموروثِ الثّقافيِّ بواقعه، وهذا النّوعُ يُضفي على النّصوصِ الجديدةِ شيئًا من الجلالِ والعراقةِ ويجعلها قابلةً للتّاويل بعيدًا عن الغموضِ والتّعقيد.

مثال:

يستلهمُ الشّاعر راشد حُسين من انتصارات صلاح الدّين الأيّوبي على الصّليبين في معركة حطّين الجلَدَ والقوّة والإباء، ويربطها بانتصار العرب في حرب أكتوبر في السّادس من تشرين 1973م على إسرائيل.

في اليوم السّادس من تشرين

في قلبِ دمشق
وُلدتْ ثانية حطّين
في اليوم السّابع من تشرين
قصفوا أطفال دمشق
لكن؛ كبر الأطفال سنين
كبرت … حتّى الأشجار

وبذلك يمزج الشّاعرُ بين أحداثِ الماضي وأحداث الحاضر، ويعيدُ تركيب أحداث التّاريخ بوعي حضاري يقرن بين انتصار (تشرين) ومجد (حطين).

كذلك قول الشّاعر ابن شُهيد:

مَلِكٌ ناصَبَ مَن خالَفَكُمْ
عامِرِيُّ المُنْتَمَى والمَنْصِبِ

حيث استدعى الشّاعرُ في سياقِ مدحِ الملكِ عبد العزيزِ المؤتمنِ ذكر أصلهِ المُنتمي إلى سلالةٍ عريقةٍ تنحدرُ من الدّولةِ العامريّة.

من أمثلتهِ أيضًا قول محمود درويش:

هزمتُك يا موت الفنون جميعها
هزمتك يا موت الأغاني في بلاد
الرّافدين، مسلّة المصري، مقبرة الفراعنة،
النّقوش على حجارةِ معبدٍ، هزمتك
وانتصرتُ، وأفلتُ من كمائنك
الخلود

حيث تناصّ الشّاعرُ تاريخيًّا مع بلادِ الرّافدين والمسلّات الفرعونيّة ومقابرها، تلكَ الحضارةُ الّتي تشهدُ على قوّتها وبسالتها في مواجهة الموتِ وعجزهِ عن قهر تلك الحضارة والإنجازات الإنسانيّة الخالدة، تمامًا كقدرة الشّاعر في تحدّيهِ وهزيمته للموتِ؛ ومن ثمّ التّغني بانتصاره حين يعجزُ الموت عن التهام اللّغة وحضارة الشّاعر وثقافته.

يُمكنُ استغلالُ تقنيةِ التناص في دراسةِ النّماذجَ القديمةَ وتحويل سياق مكوّنات التّراث بما يتضمّنهُ من عناصرَ دينيّةٍ وأدبيَّةٍ وتاريخيَّةٍ إلى سياقٍ جديد، حتّى يُمكنُ الاستفادةَ منها في إبداعِ العملِ الشّعري. صحيحٌ أنّ الإبداعَ الشّعريِّ للشّاعرِ لا يكونُ أصيلًا وجديرًا بالتّقديرِ والإعجابِ إلّا إنْ كانَ بعيدًا عن المعاني الّتي سبقهُ إليهِ غيره؛ إلّا أنَّهُ يُمكنُ للشّاعرِ المُبدعِ والموهوبِ -إن أحسنَ تركيبَ المعاني السّابقة في قالبٍ جديدٍ- أن يُحقِّقُ النّاحيةِ الجماليّةِ والإبداعيّة لقصيدته، وذلك بالتّجديد في صياغتِها وأسلوبِها بما يصبّهُ فيها من قوالبِ المجازِ والاستعارةِ والتّشبيهِ؛ ما يجعها تبدو كأنّها جديدةٌ مُبتكَرة، وجزءٌ لا ينفصلُ عن نسيجِ البناءِ الفنّي لقصيدتهِ.

ما رأيك بتقنية التناص؟ هل استخدمتها سابقًا؟ أخبرنا في التّعليقات!

# تقنيات الشعر: التناص By محمود قحطان

محمود قحطان

باحثُ دراساتٍ عُليا، وشاعرُ فُصحى، ومُدقّقٌ لغويُّ، ومُهندسٌ مِعماريٌّ استشاريٌّ. أحد الشُّعراء الَّذين شاركوا في موسم مُسابقة أمير الشُّعراء الأوّل في أبوظبي، حيثُ اختير ضمن أفضل مئتي شاعر من ضمن أكثر من (7500) شاعرٍ من جميع أنحاء العالم. نُشر عددٌ من إنتاجه الشّعريّ في الصّحفِ المحليّة والعربيّة، وأصدرَ أربعة دواوين شعريّة وكتابًا نقديًّا. مؤمنٌ بالفكرِ الإبداعيّ وأنّ كلّ ذي عاهةٍ جبّار.

‫5 تعليقات

  1. مرحبا استاذ محمود
    انا من كنت أتواصل معك قبل قليل في خمسات
    لا أخفيك علماً أني في السابق ومنذ زمن بعيد صاحب منتديات وكنت مولع جداً في إشعار نزار قباني ،، وقد أخذت منه الكثير في الأسلوب الكتابي في النثر أو الخاطره وخصوصا الغزل
    وكنت اسعد كثير عندما يعلقون البعض ويقولون بانه كتاباتي منها الكثير من تشابه نزار قباني وخصوصا الغزلية منها ،، رغم أني بعيد كل البعد عن القافية ،، فقط كلمات منثورة

    1. هذا يحدث. أن يكون لديك أسلوب الكاتب وروحه وليس تقنيته. نزار هو مدرسة كبيرة لمن يودّ كتابة الشِّعر عمومًا والموزون خصوصًا. أرجو لك التّوفيق في كتاباتك المُستقبليّة. حاول تعلّم بحور الشِّعر فهذا سيُعطي ثقلًا لما تكتب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!