فهم القرآن
لماذا لا تحتاج إلى أن تكون عالمًا لتفهم 90% من كتاب الله

- فهم القرآن
- الحاجز الوهمي: هل فهم القرآن حِكرٌ على العلماء؟
- خريطة الفَهم الرّباعيّة: كيف قسّم ابن عبّاس معاني القرآن؟
- ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ﴾: وعد إلهي بالتّيسير
- الخاتمة: افتح المصحف بثقةٍ، فأنت المُخاطب الأوّل
فهم القرآن
يقفُ كثيرٌ منّا إزاء المصحف الشّريف، يغمرهُ شعورٌ بالرّهبةِ والاحترام؛ ولكن قد يمتزجُ هذا الشّعور أحيانًا بحاجزٍ خفيٍّ من الخوفِ أو التّردّدِ. تنبع هذه الرّهبة من فكرةٍ شائعةٍ ومُؤثّرة مفادها أنّ فهم القرآن هو مهمّةٌ معقّدةٌ، ومجالٌ محصورٌ بالعلماءِ والمُفسّرين، وأنّنا كأشخاصٍ عاديين قد نُخطئ في الفَهم أو نقول على الله بغيرٍ علم. هذا التّصوّر، معَ نبلهِ في أساسه، قد يتحوّلُ إلى سببٍ رئيسٍ لهجرِ التّدبّر وبناء علاقة سطحيّةٍ معَ كلامِ الله.
لكن الحقيقة الّتي قد تُغيّر نظرتك تمامًا هي أنّ هذا الحاجز هو حاجزٌ وهميٌّ إلى حدٍّ كبيرٍ. لقد أنزل الله القرآن ليكون نورًا وهدايةً للنّاسِ كافّةً، وليس لنخبةٍ منهم فحسب. إنّ مفتاح كسر هذا الحاجز يكمُن في إدراكِ أنّ الغالبيّة العُظمى من القرآنِ قد صُمّمت لتكون واضحةً وميّسرة لك مُباشرة.
الحاجز الوهمي: هل فهم القرآن حِكرٌ على العلماء؟
قبل أن نخوض في الدّليل العمليّ، من المهمّ أن نعترفَ بسبب وجود هذا التّصوّر. إنّ عظمة القرآن وبلاغته، ورغبتنا الصّادقة في عدم الوقوع في الخطأ، تجعلنا نفضّل أحيانًا ترك مهمّة الفَهم بالكامل للمتخصّصين. لكن هذا الأمر يُشبه من يملك كنزًا ثمينًا ويخشى فتحه خوفًا من عدم معرفةِ قيمةِ كلّ جوهرةٍ فيه، فيحرم نفسه من الاستمتاعِ ببريقهِ وجماله الظّاهر للعِيان.
لقد وضع لنا علماء السّلف أنفسهم، وعلى رأسهم حِبرُ الأمّةِ وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، خريطة طريق واضحة تُظهر لنا أنّ فهم القرآن ليس كتلةً واحدةً صمّاء، بل هو مستويات متعدّدة، معظمها في متناول يديك.
خريطة الفَهم الرّباعيّة: كيف قسّم ابن عبّاس معاني القرآن؟
في فهم القرآن يروي الإمام المفسّر ابن جرير الطّبريّ عن ابن عبّاس تقسيمه لمعاني القرآن إلى أربعةِ أقسام، وهذا التّقسيم ثورة في كيفيّة نظرنا إلى المُصحف:
1. قسم تعرفه العرب من كلامها (ويمثل 80%):
هذا هو الجزء الأكبر من القرآن. هو الكلام العربيّ الواضح والمُباشر الّذي أنزله الله «بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ». عندما تقرأ قصّة موسى عليه الس~لام، أو قصّة يوسف، أو الآيات الّتي تحثّ على الصّدق والأمانة وبرّ الوالدين، وتنهى عنِ الغيبةِ والظّلم، فإنّك تفهمُ السّياق العام والمعنى مباشرةً دون الحاجةِ إلى مُعجمٍ أو مفسّرٍ. هذه الآيات تُخاطب فطرتك وعقلك بلغةٍ تفهمها.
2. قسم لا يُعذر أحد بجهله (ويمثل 10%):
يرتبطُ بـ أساسيّات الدّين وأركانه الّتي يجبُ على كلّ مسلمٍ معرفتها. آيات التّوحيد الواضحة مثل «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ»، والأوامر الصّريحة بإقامة الصّلاة وإيتاء الزّكاة، والتّحذير منَ الشّرك. هذه المعاني من الوضوح بمكانٍ بحيث لا يُقبل من أيّ شخصٍ الجهل بها، وهي قلبُ الرّسالة الإلهيّة.
النّتيجة المذهلة: إذا جمعنا هاتين الفئتين، فإنّنا نصل إلى (90%) من القرآن الكريم. نعم، تسعون بالمئةِ من كتابِ الله هو في متناول فَهمك المُباشر، يُنتَظرُ منك أن تُقبل عليه بقلبٍ مفتوحٍ وعقل متفكّرِ فحسب.
3. قسم يعلمه العلماء (ويمثل 5%):
هنا يأتي دور أهل الاختصاص. هذا القسم مُرتبطٌ بالمعاني الدّقيقة، وغوامض بعض المفردات، واستنباط الأحكام الفقهيّة المُعقّدة، والرّبط بينَ الآياتِ المُختلفة. هذا هو المجال الّذي نحتاجُ فيه إلى الرّجوعِ إلى العلماء، وهم بمنزلةِ المرشدين المتخصّصين في هذه الرّحلة، وليسوا حرّاسًا يمنعونك من دخولها.
4. قسم لا يعلمه إلّا الله (أقل من 5%):
وهذا هو قمّة التّواضع الإنسانيّ إزاء العلم الإلهيّ. يشملُ هذا القسم أسرارًا استأثر اللهُ بعلمها، مثل: الحروف المقطّعة في أوائل السّور (ألم، حم، كهيعص) وحقيقة بعض أمور الغيب. وجود هذا القسم يُعلّمنا أنّنا مهما بلغنا منَ العلمِ، سيبقى هناك دائمًا ما هو فوق إدراكنا، فنقول: «آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا».
﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ﴾: وعد إلهي بالتّيسير
إنّ هذا التّقسيم العملي ليس مجرّد رأي، بل هو تجسيدٌ للوعدِ الإلهيّ الّذي تكرّر في سورة القمر أربع مرات: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾. كلمة (يسّرنا) هي فعلٌ إلهيٌّ مُباشرٌ. تولّى الله بنفسه مهمّة جعل كتابه سهلًا للتّذكّر والاتّعاظ. لم يُنزل القرآن ليكون لغزًا معقّدًا أو كتابًا فلسفيًّا نخبويًّا، بل أُنزِل ليكون «هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ».
حتّى كبار الصّحابة، مع عمق فَهمهم وقربهم من الوحي، كانوا يتعاملون معَ القرآن بهذه الرّوح. فعندما سُئل أبو بكر الصّديق -رضي الله عنه- عن معنى كلمة «وَأَبًّا» في سورة عبس، لم يتكلف الإجابة، بل قال بتواضع: «أيُّ سماءٍ تُظِلُّنِي وأيُّ أرضٍ تُقِلُّنِي إن قُلتُ في كتابِ اللهِ ما لا أعلَمُ؟». هذا لم يمنعه من فَهم سياق الآية العامّ بأنّ الله يمتنّ على عباده بنعمهِ من الحدائقِ والفاكهة والكلأ. لقد فَهم المعنى العامّ، وتوقّف بتواضعٍ عند المفردةِ الّتي لم يعرفها.
الخاتمة: افتح المصحف بثقةٍ، فأنت المُخاطب الأوّل
الرّسالة واضحة: أنت لست ضيفًا غريبًا على مائدةِ القرآن، بل أنت المخاطب الأوّل بهذه الرّسالة. لا تدع الـ (10%) من الآياتِ الّتي تحتاجُ إلى متخصّصٍ تمنعك عن الاستفادة من الـ (90%) الّتي تُخاطبك مباشرةً.
ابدأ اليوم. افتح المصحف بثقةٍ. اقرأ بقلبك وعقلك. ستجدُ أنّ الآيات تتحدّث إليك، وأنّ القَصص تُعلّمك، وأنّ الأوامر والنّواهي تُرشدك. وعندما تمرّ بآيةٍ دقيقةٍ أو كلمةٍ غامضةٍ، فاعلم أنّ هذا هو الوقتُ المناسبُ للرّجوعِ إلى كتبِ التّفسير الميسّرة أو سؤال أهل العلم؛ لتضيف إلى فَهمك عمقًا جديدًا.
إنّ الثّقة في قدرتك على فهم القرآن وتلقّي رسالة الله هي الخطوةُ الأُولى نحو علاقةٍ أعمق وأكثر حيويّة معَ القرآن، علاقة مبنيّة على الحبِّ والفَهم، لا على الخوفِ والتّردّد.
# فهم القرآن By محمود قحطان،







اترك تعليقاً