بين راحتين من ورق

موسم الهجرة إلى الشمال الطيب صالح

موسم الهجرة إلى الشمال الطيب صالح

موسم الهجرة إلى الشمال رواية أشبه ما تكون بفيلمٍ وثائقي عن السودان، ومُجتمع القرية، وصراعِ الهُويّة داخل الأشخاصِ الّذين عاشوا في بريطانيا في الوقتِ الّذي كانت تُستعمَرُ فيهِ بلادهم، فبداخلهم كلّ الحبِّ لبريطانيا بمُدنها وجامعاتها وشعرائها ومجتمعها المُحافظ وتقبّلها الآخر، وبداخلهم كلّ الكرهِ -أيضًا- لتلك السّكك الحديد الّتي بُنيَت لتنقلَ الجنود، والمَوانئ البحريّة الّتي أُعِدّت لتنقلَ خيراتِ البلادِ إلى بريطانيا.

طوال الرّوايةِ يظلّ راويها مُتلصّصًا يَظهرُ لنا جزءٌ منهُ ويختفي آخر، ويحتفظُ بالهيمنةِ على الحديثِ والمجريات ثمّ لا تلبث الشّاشة أن تتحوّلَ عنهُ إلى مصطفى سعيد، تأخذنا معهُ في تفاصيلِ طفولته الّتي تميّز فيها بالذّكاءِ الدّراسي العالي، والجمودِ العاطفيّ الكبير، سمتان ظلّتا مُلازمتين لهُ طوال العُمرِ، حتّى بعدَ أنْ غابَت عن حياتهِ والدتهُ الّتي لم تكُنْ تُعبّرُ عنْ أيّ انفعالاتٍ أو مشاعرَ، حتّى عندما ودعته وهو ابن اثنتي عشْرة سنة ليُكملَ دراستهُ الثّانوية في القاهرةِ، لم يرَها يومًا سعيدةً ولا حزينةً ولا قلقةً ولا مُطمئنّةً، وكانَ يتيمًا، فلم تُعطهِ الحياةُ في تلك الفترةِ دروسَ العاطفةِ الطّبيعيّة، فسقطَ في تلك المادّة، وظلّ مستواهُ فيها ضعيفًا مدى الحَياة.

موضوع مُميّز: ولدتُ هناك… وُلدتُ هنا

في القاهرةِ احتضنتهُ عائلة روبنسون واتّخذتهُ ابنًا لها، وظلّوا على تواصلٍ قريبٍ معهُ حتّى بعدَ أنْ تركَ مصرَ مُسافرًا إلى بريطانيا لتلقّي تعليمه الجامعيّ؛ ولأنّها كانت تُحبّهُ كابنها؛ كانت مسز روبنسون قادرة على التّعاطفِ معهُ حتّى بعد ارتكابهِ جريمةَ قتلٍ، وتسبّبه في انتحار ثلاث سيّدات إنجليزيّات، إحداهنّ زوجةٌ وأم.

لم يكُن الرّاوي مُجرّد صوت خلفيّ يشرحُ لنا الأحداثَ، بل كان شخصيّةً تقاطعت مع حياةِ مصطفى سعيد صدفةً في إحدى قُرى السودان، فهو العائدُ إلى قريتهِ من بريطانيا بعدَ إكمال دراستهِ، يشعرُ بشتاتهِ يُجمَعُ لأوّل مرّةٍ منذُ سنواتٍ وهو يتأملّ تفاصيلَ قريتهِ وطبيعةَ الحياةِ فيها، ويستمتع بلقاءِ أهلهِ وأقاربهِ وأصدقائهِ، ويشعرُ بفضولٍ كبيرٍ لمعرفةِ الغريب الّذي وجدهُ يعيشُ في القريةِ بعد أن قَدِمَ إليها منذُ خمس سنواتٍ وتزّوجَ من إحدى بناتها وأنجبَ منها طفلين؛ إلّا أنّ أحدًا من أهلِ القريةِ لا يعرفُ شيئًا عن أصلهِ وماضيه.

كانَ ذلك الغريبُ هو مصطفى سعيد، العائدُ من سجنهِ البريطاني بعدَ أن قضَى عقوبةً مُدّتها خمس سنواتٍ، لم يفضحْ أمرهُ سِوى نطقه بشعرٍ إنجليزيّ في لحظةِ ثمالةٍ، الأمرُ الّذي حوّلهُ إلى لغزٍ كبيرٍ في نظرِ الرّاوي، فجعلهُ يُلاحقهُ بالأسئلةِ لمعرفةِ من يكون، وأينَ تعلّم الإنجليزيّة وأشعارِها، فقصّ لهُ مصطفى سعيد حكايتهُ بعدَ أنْ أخذَ منه وعدًا بأن لا يقصّ ما سمعهُ منهُ إلى أحدٍ، وعادَ فجعلهُ في حلٍّ من وعدهِ حينَ كتبَ لهُ وصيّته، فقدْ جعلهُ وصيًّا على زوجتهِ وأبنائهِ بعدَ موته، موتهُ الّذي كانَ مُحيّرًا كحياتهِ، فلمْ يستطعْ أحدٌ أنْ يجزمَ بما حدثَ له، بعدَ أنْ خرجَ إلى النّيل في وقتِ الفيضاناتِ ولم يعد!

بينَ الحينِ والآخر تأخذنا الكاميرا في جولةٍ في حياةٍ الرّيف، وفي جلساتِ كبارِ السّنِّ الّذين تتنوّعُ صفاتهم بين: مُتصَابٍ ومتديّنٍ وعجوزٍ لا تتحرّج في الحديثِ فيما يستحي منهُ النّاسُ عادةً، وآخرين عاشوا حياتهم مجرّد عددٍ إضافيٍّ دونَ أنْ تكونَ لهم سمةٌ مميّزةٌ جيّدةٌ كانت أم سيئة، ويبرزُ شبابُ القريةِ الطّموحينَ الّذيَنَ يفعلونَ كثيرًا لأجل قراهم، ويُشاركونَ في الحركةِ السّياسيّةِ ويُطالبون بالخِدْماتِ والإصلاحات لأجل مُستقبل أبنائهم. شبابٌ يحسدونَ الرّاوي على وظيفتهِ الحكوميّةِ الّتي حصلَ عليها في الخرطومِ، في الوقتِ الّذي يحسدُهم فيهِ على أنّهم يعملونَ عملًا حقيقيًّا على الأرضِ، وليس مُجرّد وظيفةٍ رتيبةٍ خلفَ مكتبٍ أنيق.

بعدَ غيابِ مصطفى سعيد يتوجّهُ الانتباهُ نحو زوجتهِ القرويّةِ بنت محمود الّتي اختارتْ أن تعيشَ بعدهُ لتربيةِ أبنائها فحسب؛ الأمرُ الّذي لم يقبلهُ مُجتمع القريةِ، خصوصًا عندما ألحّ في خِطبتها ودّ الرّيس أحدُ رجالِ القريةِ الموسرين، رفضتهُ، فضربها أهلها وأجبروها على الزّواجِ منهُ، الأمرُ الّذي تردّدَ حيالهُ الرّاوي؛ فقد خطرت في بالهِ فكرةُ الزّواجٍ منها ولكنّهُ تردّد وعادَ إلى الخرطوم لزوجتهِ وابنتهِ، ليسمع بعدئذٍ خبرَ الحادثةِ الّتي وقعتْ في قريتهِ، عادَ سريعًا ليجدها قد قتلَت ودّ الرّيس الّذي تزوّجها دونَ رضاها، ثمّ قتلت نفسها!

يعودُ إلى بيتِ مصطفى سعيد وهو في قمّةِ الحزنِ، يُفكّرُ في دخولِ غرفةٍ لم يكنْ يعلمُ ما بها، كلّ ما يعرفهُ أنّ مصطفى سعيد قد أعطاهُ مفتاحها مع الوصيّةِ، وأخبرهُ أنّهُ سيجدُ داخلها ما يُشبع فضوله، فتحَ البابَ ليجدَ عالمًا مُختلفًا عن عالمِ القريةِ: مكتبةً ضخمةً تمتلئُ بكتبٍ في مختلفِ المجالاتِ، ومؤلّفاتٍ إنجليزيّة، ومؤلّفاتٍ لمصطفى سعيد ألّفها حينَ كان أستاذًا جامعيًّا في الاقتصادِ في الجامعاتِ البريطانيّة، فرشًا وثيرًا وتفاصيل مُعدّة بعنايةٍ للغٌرفة الّتي كانَ مصطفى سعيد يقضي فيها مُعظم يومهِ ولم يسمحْ لأحدٍ غيره بدخولها ولا حتّى زوجتهُ وأبناؤه.

في الغرفةِ صورٌ كثيرةٌ لمصطفى سعيد، ولمستر ومسز روبنسون، وللنّساء الثّلاث اللّاتي كانتْ تدورُ النّقاشاتُ حولهنّ في جلسةِ المحاكمةِ لمعرفةِ علاقة مصطفى سعيد بانتحارهنّ، فقدْ وجدَ بجانب كلّ منهنّ ورقةً كُتب عليها اسم مصطفى سعيد بعباراتٍ مختلفةٍ، تُعطي جميعها معنىً واحدًا، أنّهنّ قرّرنَ الانتحار بسببه.

بينَ الأوراقِ وقصاصاتِ الجرائدِ رسوماتٌ للقريةِ رسمها مصطفى سعيد بيدٍ ماهرةٍ، ووجوهُ النّاس فيها، ورسمةٌ لوجهِ جين مورس، المرأةُ الّتي قتَلها، فيتذكّرُ الرّاوي ما قصّه مصطفى سعيد عنها، وعن علاقةِ غريبةٍ جمعتهما، علاقةٌ بدأتْ بالكرهِ وظلّت كلّما ابتعدتْ عن الكرهِ قليلًا عادت إليهِ؛ إلّا أنّها لم تُفارقْ العنفَ يومًا، فمنذُ اليوم الأوّل عبّرَ عن إعجابهِ بها فأساءتْ إليهِ، فأقسمَ أنّهُ سيقتلها يومًا، ثمّ في اللّقاءاتِ التّالية عبّرتْ لهُ كثيرًا عن كرههِ لها، وظلّ هو مشدودًا لتلك السّيدة الوحيدة الّتي استعصَت عليهِ، وهو الّذي لديه علاقاتٌ نسائيّة عديدة، يعدهنّ بوعودٍ زائفةٍ فيصدّقنها، تزورهُ في منزلهِ فتتلفُ كتبه وأبحاثه المُهمّة وتلقي بها في سلّةِ المهملاتِ ثمّ تذهب، حتّى في الأماكنِ العامّةِ كان يضربها ويعنّفها وتضربهُ وتدخلهُ في شجاراتٍ مع الآخرين في حين تقفُ في سعادةٍ تنظرُ لما يحدُث!

…وعلى عكس ما قد يظنّ أيّ أحدٍ، تزوّجا! وظلّت علاقتهما مبنيّةً على العنفِ، والتّوتّر الدّائم، والشّكّ في الخيانةِ، والشّجاراتِ الّتي يُكسَرُ فيها أثاثُ المنزلِ وتُحرق أجملُ الهدايا والتّذكارات؛ في حين تظلّ على لسانهِ عبارةً واحدةً نفّذها في لحظةٍ غير مُتوقّعة: «سأقتلك يومًا»، وحين سألهُ المحقّقُ عمّا إذا كانَ قد تسبّب في انتحار السّيدات الثّلاث، أجاب: «لا أدري». أما حين سألهُ إن كان قد قتلَ زوجتهُ جين مورس متعمّدًا، كانت إجابته القاطعة: «نعم».

يُفكّرُ الرّاوي في لحظةِ حزنٍ ويأسٍ في الموتِ غرقًا، يجدُ نفسهُ وسطَ مياهِ النّيلِ الّتي دخلها طلبًا لغسلِ أحزانهِ، يشعرُ بتيارِ المياهِ يجذبهُ نحوَ الأسفلِ في حين تضعفُ قوّتهُ؛ ولكنّهُ قرّرَ أنْ يصرخَ بأعلى صوتهِ طلبًا للمُساعدةِ لأنّ مبدأه في الحياةِ: «أريدُ أنْ آخذَ حقّي من الحياةِ عنوة. أريدُ أن أعطي بسخاءٍ، أريدُ أنْ يفيضَ الحبُّ من قلبي فيُنبع ويُثمر. ثمّة كتبٌ كثيرةٌ تُقرأ، وصفحاتٌ بيضاءُ في سجلِّ العمرِ، سأكتبُ فيها جملًا واضحةً بخطٍّ جريءٍ، ثمّة ثمارٌ يجبٌ أن تُقطَف، وآفاقٌ كثيرةٌ لا بدّ من أن تُزار».

# موسم الهجرة إلى الشمال الطيب صالح By محمود قحطان،

محمود قحطان

باحثُ دراساتٍ عُليا، وشاعرُ فُصحى، ومُدقّقٌ لغويُّ، ومُهندسٌ مِعماريٌّ استشاريٌّ. أحد الشُّعراء الَّذين شاركوا في موسم مُسابقة أمير الشُّعراء الأوّل في أبوظبي، حيثُ اختير ضمن أفضل مئتي شاعر من ضمن أكثر من (7500) شاعرٍ من جميع أنحاء العالم. نُشر عددٌ من إنتاجه الشّعريّ في الصّحفِ المحليّة والعربيّة، وأصدرَ أربعة دواوين شعريّة وكتابًا نقديًّا. مؤمنٌ بالفكرِ الإبداعيّ وأنّ كلّ ذي عاهةٍ جبّار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!