القات الشعري
حينَ كنَّا في الجاهليّة، ترنَّمَ عنترةُ دالًّا على شجاعتهِ المُتناهية بهذا الشّطر:
لوددتُ تقبيلَ السّيوفَ
أمّا في زمنِنا هذا، ما زلنا نتعاطى القات الشّعري، ونسبحُ في غيبوبةِ الكلامِ، ونلبسُ بِدَلَ (السّموكينج) ونحضرُ مِراسمَ دَفنِ زمان القصيدة الجديدة.
الشَّاعرُ –أيّ شاعر– بحاجةٍ إلى هزَّةٍ، أو تحريض، أو حافزٍ ما، بحاجةٍ إلى غَسلِ عينيهِ بالبَياضِ كي يتغيَّرَ تركيبَهُ الجينيّ ليدخُلَ نوبةَ الكتابة، فهل كانت ثورةُ الأحذيةِ بداية هذهِ النّوبة؟
الحقيقةُ، أتعجبُ لكلِّ هذا التبجيل والتَّمجيد الّذي حصلَ عليهِ البطل الهلامي وكأنَّهُ قد حرَّرَ العِراق! مع إيماننا –جميعًا- باستحالةِ أن يفعلَ ذلك في عهد صدام حسين. هي وقاحةٌ وإهانةٌ ولا شكّ؛ لكنَّها لا تجعل منهُ بطلًا، ولا تضيف للعراق نصرًا ما؛ لكنَّنا ما زلنا نحترفُ الاختباء إلى أنْ يضعفَ عدونا، حين ذلك فقط، نُشهر في وجههِ كلّ أحذيتنا/أسلحتنا!
بطبعي، أكرهُ قصائدَ الشّعرِ الوقتي المُنتمي إلى مناسبةٍ ما، تلكَ الّتي لا تأتي إلَّا تقليدًا للموجةِ السَّائدة، أو الّتي تكون نتاجَ ردّ فعلٍ عاطفيّ، ومع أنَّها قد تكون عفويّة وطبيعيّة إلَّا أنَّها تدخلُ ضمن نطاق اللاعقل. وما أُسمِّيهِ سطحيّة، هو حالُ معُظم الشُّعراء في تناولهم قضيَّة الحذاء، حيثُ أخذ الحذاء جلَّ اهتمامهم وتركيزهم، وأصبحت القضيّة الّتي رُشِقَ من أجلها الحذاء في أروقةِ التّجاهلِ ومحورًا منسيًّا. إضافةً إلى غيابِ الرَّمزية عن التّعبير، وإفراغ الشِّعر من كلِّ أساليبهِ الفنيَّة والدّلاليّة الّتي يمتاز بها الشِّعر الحقيقي، وإبحارهِ في دلالاتٍ أقربُ ما تكون إلى خطاباتٍ تقريريّة أخذت من فضاءِ الشِّعر الرَّحب.
الشِّعرُ هو حالةُ الدُّخولِ في الحلمِ وإثارةِ الخيالِ، هو الانتماءُ إلى حزبِ اللاحزب! هو الطَّاقة الّتي تَنبعثُ من سُلالةِ الكلماتِ فتُشعلُ حرائقَ كاملة.
لكنَّنا أكدَّنا –وبوجهٍ خاص– أنَّ الشِّعرَ يحترفُ الاعلاناتِ السِّياسيةِ، وينتمي إلى الحزبِ الببَّغائي!
هذا -بحدِّ ذاتهِ- يثيرُ القلقَ والخوفَ من الإساءةِ إلى قيمةِ الشِّعرِ، فلا شيء يُجبرُ الشَّاعر على أنْ يتحولَ إلى مُكبِّرِ صوتٍ، أو أنْ يكون نُسخةً مكرَّرة تُباعُ في سوقِ الشِّعاراتِ، وتمثالًا أجيرًا في المَواليدِ وحلقاتِ الذِّكر، هذا ليس من مصلحةِ الشِّعر، فالشِّعرُ تحريضيٌ بالدَّرجةِ الأولى لا انتهازي، والشِّعرُ يغرقُ في بحارِ الجدلِ ويزرعُ الأسئلةَ، لا أنْ يُصبحَ مرآة تعكسُ لونَ الواقعِ.. بسذاجةٍ!
الآنَ، ونحنُ في هذا الزَّمن، لمْ تعدْ مساحةُ الشِّعر أكبر من ذي قبل، فهي أشبه ببالونةِ الهَواءِ المثقوبةِ الّتي ترتخي وتضعف مع مرورِ الوقتِ.. حتّى تخمدَ؛ فلقد أخذتِ الصّورة المرئيّة حيِّزًا من المِساحةِ الجغرافيّة للشِّعر؛ لذا أنا مُقتنعٌ بأنَّ المشهدَ الحقيقي للحادثةِ أبلغ من عشراتِ القصائدِ الّتي كُتبتْ وسوف تُكتبْ. لى الشَّاعر أنْ يكونَ أكثرَ حرفةً وأكثرَ ذكاءً كيْ يستطيعَ أنْ يَخرجَ من قُمقمِهِ ليكتبَ نصًّا أكثرَ اختلافًا وأشدَّ اتّساعًا دون أنْ يَجرُّهُ عقلهُ إلى حفرةِ التِّكرار والتّسطيح.
مهما تعدَّدتِ المواقفِ الّتي من هذا النّوع، فنحنُ نُدركُ تمامًا أنَّها لنْ تُعيدَ لنا إنشًا واحدًا من مِسَاحةِ حُقوقِنا، أو سنتيمترًا من حرِّيتنا. أنا –بالتَّأكيد- مع أنْ يُدليَ كلِّ شاعرٍ بأرائهِ وتعليقاتهِ كلّها، من حقّهِ أنْ يتنفَّسَ أُكسجينَ الحُريَّة، وهي لنْ ترتبطَ إلاَّ بصاحبِ النّظريّة، ولنْ تلتصقَ بسواه، وذلكَ.. (أضعفُ الايمان).
# القات الشعري By محمود قحطان،
