
- تدبر القرآن بعلم لا بخيال
- الفرق بين تدبر القرآن والسّرحان فيه
- التدبر يتطلب علمًا: لماذا لا يمكنك استخراج ما ليس فيك؟
- من النّظر إلى البصيرة: تدبر آية ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾
- كيف أبدأ تدبر القرآن كشخصٍ عاديٍّ؟
- الخاتمة: اجعل التّدبر ثمرةً للتّعلّم
تدبر القرآن بعلم لا بخيال
إن تدبر القرآن، تلك الغاية العظيمة الّتي نسعى إليها، غالبًا ما يُخلط بينه وبين حالةٍ من السّرحان الّتي نمرّ بها جميعًا. فكم مرّةً بدأت في قراءة القرآن، ربّما في صلاتك، ووجدت عقلك فجأةً يُبحر بعيدًا؟ تقرأُ قصّة موسى -عليه السّلام-، وبدلًا من استشعار العبرة، تجد نفسك تتخيّل شكل العصا وهي تتحوّل إلى حيّةٍ تسعى، وتستغرقُ في تفاصيل مشهد سحرة فرعون حتّى يركع الإمام وأنت لا تزال في خيالك. أو ربّما تمرّ على وصفِ الجنّةِ، فترسمُ في ذهنِك صورًا لأنهارٍ وشلّالاتٍ رأيتها في سَفرك، وأشجارًا تُشبه حديقةً زرتها.
هذا الاستغراق الذّهنيّ، الّذي قد نظنّه نوعًا من الخشوعِ أو التّأمّلِ، يطرح سؤالًا جوهريًّا: هل هذا هو تدبر القرآن الّذي أمرنا الله به في قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾؟ الحقيقةُ أنّ فرقًا دقيقًا وحاسمًا بين «التّدبّر» المُنتج و«السّرحان» العبثيّ. يرمي هذا المقال إلى توضيح هذا الفرق، وتقديم خريطة طريق عمليّة لتحويل قراءتك من مجرّد شرودٍ ذهنيٍّ إلى رحلةِ تأمّلٍ حقيقيّةٍ وعميقة.
الفرق بين تدبر القرآن والسّرحان فيه
المشكلة الأساسية تكمن في الخلط بين إجراءين ذهنيّين مختلفين تمامًا. السّرحان أو الخيال هو إجراءٌ سلبيٌّ؛ إذ يستدعي العقل صورًا مخزّنة لديه من تجاربه الدّنيويّة المحدودة ويُحاول إسقاطها على النّصوصِ المقدّسة. عندما تتخيّل أنهار الجنّة، فإنّك تستحضرُ صورةَ نهرٍ دنيويٍّ؛ ولكن هل هذا هو حقيقة نهر الجنّة؟ يُخبرنا النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنّ في الجنةِ شجرةً يسيرُ الرّاكب في ظلّها سبعين عامًا لا يقطعها. أيّ خيالٍ بشريٍّ يُمكنهُ استيعاب هذه العظمة؟
هذا النّوعُ من التّفكيرِ، خاصّةً إذا كان بلا ضوابط، يُصبح عبثيًّا لأنّه لا يضيفُ إلى إيمانك أو فَهمك شيئًا حقيقيًّا، بل قد يُشوّه عظمةَ النّصِّ ويحصره في حدودِ تجربتك الضّيّقة. التدبر، على النّقيضِ تمامًا، هو إجراءٌ إيجابيٌّ ونشطٌ، يتطلّب جهدًا عقليًّا وفكريًّا، ويرمي إلى فَهم مراد الله من كلامهِ، واستخراج الهدايات، وربطها بالواقع.
التدبر يتطلب علمًا: لماذا لا يمكنك استخراج ما ليس فيك؟
هناك حكمة بليغة تقول: «كلُّ إناءٍ بما فيهِ ينضحُ». لا يمكنك أن تستخرجَ من عقلك معرفةً لم تُدخلها إليه أصلًا. فإذا كان رصيدك من العلمِ بمعنى آية معيّنة سطحيًّا؛ فإنّ تدبّرك لها سيكون حتمًا سطحيًّا. وإذا كان رصيدك صفرًا، فإنّ كلّ ما ستفعله هو الدّوران في حلْقةٍ منَ الخيالاتِ والتّخميناتِ الفارغة.
تخيّل أنّك أُعطيتَ واجبًا لتفسير قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، دونَ الرّجوع إلى أيّ كتابٍ أو عالمٍ. ستقول بعض المعاني العامّة الّتي تعرفها. ولو أُعطيت أسبوعًا كاملًا، ستعود بالكلامِ نفسه تقريبًا، ربّما بكلماتٍ منمّقة أكثر، ولكن جوهر المعنى لن يتغيّر. لماذا؟ لأنّه لم يدخل إلى عقلك أيّ مُدخلاتٍ علميّةٍ جديدة. التدبر الحقيقي لا يأتي من فراغ، بل هو نتيجة ونتاج للمعرفةِ السّابقة.
من النّظر إلى البصيرة: تدبر آية ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾
لنأخذ مثالاً عمليًّا يوضّح الفكرة. عندما يأمرنا الله بالنّظر إلى الإبل، هل المطلوب هو مجرّد النّظر إلى صورةِ جملٍ؟ هذا هو المُستوى الأوّل واليسير. لكن تدبر القرآن ينقلنا إلى مستوى أعمق. كلمة «كيف» هي مفتاح التّدبّر هنا.
- التدبر الحقيقي لا يكتفي بالنّظر إلى شكل الجمل، بل يتساءل: كيف خُلق بهذه الطّريقة؟
- كيف تتحمّل أقدامه (الخفّ) حرارة الرّمال؟ (وهذا يقودنا إلى علم التّشريح).
- كيف تحمي رموشه المزدوجة عينيه من الغبار؟
- كيف يستطيع تخزين الماء والطّاقة ليصبر على العطشِ والجوع لأيّامٍ؟ (وهذا يقودنا إلى علم الأحياء والفسيولوجيا).
إذًا، التدبر هنا ليس مجرّد نظرةٍ عابرةٍ؛ بل هو دعوةٌ صريحة للبحثِ والتّعلّمِ في علوم الكون الّتي تكشفُ عظمةَ الخالقِ وقدرته. وكذلك في قوله تعالى: ﴿وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ﴾، فالتّدبّر ليس مجرّد التّحديق في السّماء الزّرقاء، بل هو دعوةٌ للتّفكّرِ في علم الفلك، والمجرّات، والمسافات الهائلة، والقوانين الدّقيقة الّتي تحكمها. التّدبّر هنا هو رحلةٌ فكريّةٌ تبدأ بالآية وتنتهي بزيادة اليقين بعظمةِ الله.
كيف أبدأ تدبر القرآن كشخصٍ عاديٍّ؟
الآن قد تقول: «أنا لست عالم أحياء ولا فلكيًّا، فكيف أتدبّر؟». هنا يأتي التّفريق بين تدبّر العالم وتدبّر العامّي. تدبّر العالم يكون بـ الاستنباط العميق من مخزونه العلميّ الواسع. أمّا طريقك أنت كشخصٍ عاديٍّ فهو ليس محاولة القفز إلى النّتائج، بل البَدء في الرّحلة نفسها: رحلة التّعلّم.
- ابدأ بالمعنى أوّلًا: قبل أن تُحاول التّأمّل في آيةٍ، اقرأ تفسيرًا مختصرًا وموثوقًا لها (مثل تفسير السّعديّ أو المختصر في التّفسير). افهم أوّلًا ماذا تعني الآية في سياقها اللّغويّ والشّرعيّ. هذا هو الأساس الّذي ستبني عليه.
- اطرح الأسئلة الصّحيحة: بعد معرفة المعنى الأساسي، ابدأ في طرح أسئلة التّدبّر:
- ما الرسالة الرّئيسة لي في هذه الآية؟
- لماذا استخدم الله هذه الكلمة تحديدًا؟
- كيف يُمكنني تطبيق هذه الآية في حياتي اليوميّة؟
- ما الأثرُ الّذي يجبُ أن تتركه هذه الآية في قلبي وسلوكي؟
- اربط بواقعك: التدبر الحقيقيّ هو الّذي يربط النّصّ بحياتك. عندما تقرأ عن الصّبر، فكّر في مواقف محدّدة في حياتك تحتاجُ فيها إلى الصّبر. وعندما تقرأ عن الشّكر، استشعر نِعمَ الله عليك اليوم.
الخاتمة: اجعل التّدبر ثمرةً للتّعلّم
في النّهايةِ، يجبُ أن نُغير نظرتنا إلى التدبر. هو ليس نقطة البداية، بل هو الثّمرة الحُلوة الّتي تقطفها بعد أن تزرعَ بذرةَ التّعلّمِ وتسقيها بالتّساؤل والتّفكّر. التدبر ليس بديلًا عن قراءة التّفسير، بل هو المرحلة الّتي تليها وتتوّجها.
لا تستسلم للسّرحان والخيال العبثيّ. ابدأ رحلة التّعلّم المنظّم، ولو بآيةٍ واحدةٍ في اليوم تقرأ تفسيرها. حيئذٍ، ستكتشفُ أنّ تدبر القرآن ليس مجرّد شعور عابرٍ، بل هو حوارٌ واعٍ وعميقٌ مع كلامِ الله، يُغذّي عقلك، ويطمئنُ قلبك، ويُنير دربك.
# تدبر القرآن By محمود قحطان،






شكر وتقدير
ما اجمل وافضل ما قرأت ،ابارك الله بك ، وجعلها الله لك في ميزان حسناتك
جزاكَ الله خيرًا على كلماتكَ الطّيّبة، وأسأل الله أن يكتب لنا ولكَ الأجر. 🌹ر