القارئ والغموض الشعري
القارئ والغموض الشعري
التَّأويلُ بحسبِ –دريدا– «يُنتج معانٍ لا حصرَ لها»، والتَّأويلُ: «تفسيرُ النَّص، وبحث معناه، وتخريج قواعده، وترجمتها إلى لُغةٍ ثانية، وثالثة».
ثمّة قراءتان للنَّصِّ: قراءةٌ ساذجة، وقراءةٌ مُركَّبة.
يقولُ هيرش: «إنَّ القراءةَ فنٌّ يخضعُ لموهبةِ الفرد ولتجربتهِ وثقافتهِ. ولكن إذا كانت القراءة ترتبطُ بالحدسِ؛ فإنَّ الحدسَ يخضعُ للعواملِ الفردية». النَّصُّ فضاءٌ مفتوح، يُوجدُ علاقةً تبادليّة بينهُ وبين القارئ. فهناكَ من يطمئنُّ إلى قراءتهِ الأولى للنَّص مُكتفيًا بما وصل إليهِ من فهمٍ ومعتقدات، وهناكَ قراءةٌ واعية تغوصُ في تركيبةِ النَّصِّ وتسبحُ في طيَّاتهِ حتَّى تُعرِّيه أو تقترب من لمسِ شاطئه.
موضوع مُميّز: العمارة الطّينيّة في اليمن
يقول (الويار): «إنَّ الكلمة لا تُعبِّر مُطلقًا عن غرضها تعبيرًا كاملًا، بل تقتصر على إعطاء فكرة عنه، وعلى عرضهِ باختصار». هو سيفُ الدَّهشة الذي يُقطِّعنا قبل أن نُرتِّب الفقرة الشِّعرية -وما تحويها من عباراتٍ وكلماتٍ- ترتيبًا طبيعيًا أو عاديًا. نحنُ نتعلَّقُ بما ليس متوقَّعًا دائمًا. ربَّما قليلون من يعرفون مُعاناة الشَّاعر، فالشَّاعرُ عندما يوشكُ على قولِ شيءٍ ما، فهو يختبر جميع العبارات والكلمات المُناسبة لما يُريد كتابته. يجد فيما يكتب دائمًا ما لا يُحقِّق التَّعبير المنشود، كأنَّ يكون التَّعبيرُ ضعيفًا أو محشوًا بما يُمكنُ الاستغناء عنه، أو لا يُناسب الشَّكل الذي يريده. فنراه في رحلةِ بحثٍ وقراءةٍ ليستطيع أن يُفرِغَ ما يُريد قوله في قالبٍ يُرضيه؛ فالكلماتُ الّتي كانت تبثقهُ من الدَّاخل وتخرجُ تلقائيًّا دون وعي أو ترتيب أو تنسيق، ودون أن يُفكِّرَ فيها؛ أصبح من الواجبِ عليه الآن أن يُدققَّ جيِّدًا ويراقب ويُقلّب الأمرَ من كلِّ زاويةٍ حتَّى يقتنع تمامًا بأنَّهُ توصَّل إلى الاستخدام الدَّقيق للكلمةِ بحيث لا تخسر معناها. يقودنا هذا إلى الإرتفاع باللّغةِ لتدخلَ دائرة الضَّوء من جديد.
لذلك فإنَّ الشَّاعر لا يفترض أو يتخيَّل –في جميع الأحوال- قارئًا ما ليُعبِّر عن مستوى فهمهِ؛ لأنَّ الثَّقافة والتَّطور الفكري والتّجارب الإنسانيّة لا تتشابه. بل إنَّني أكادُ أُجزمُ أنَّ الشَّاعرَ الّذي يفترضُ نوعيَّةً معيَّنةً من القرَّاء ليحدِّدَ لنفسه الطَّريق أو الأسلوب الّذي سيكتب بهِ -من أجلهم فحسب- هو شاعرٌ ضعيف. لا يُمكنهُ كشاعرٍ أن يُقرِّرَ من الّذي سوف يقرأه. الشَّاعرُ المجيد يُحاولُ أن يكتبَ بشخصيّتهِ هو لا بشخصيّةِ قارئٍ أو جمهورٍ مُعيِّن. أي لن يفترض نوعيَّة المُتلقِّين أبدًا، وإلَّا حكَم على نصوصهِ بالإعدام. لا يُمكنهُ أن يُفصِّلَ كتاباته على أمزجتهم، أو أن يمتنع عن استخدام الرَّمز أو تطعيم نصوصهِ ببعضِ الغموضِ اللّذيذ خشية أن يُتَّهم بالسِّريالية، أو أنَّهُ من جماعةِ من يقطعون صلتهم بالقارئ والنَّص. هو يكتُب فجسب. لا يلتفتُ التفاتًا جذريًّا إلى ثقافةِ القارئ. هذا لا يعني عدم الاهتمام بهِ ولكن لأنَّهُ يُدرك جيِّدًا أنَّ القرَّاءَ لن يتناولوا نصَّهُ بالدَّرجةِ نفسها من الفهم والإعجاب، ويعلمُ جيِّدًا أنَّ المُتلقّي هو الحكم، فبإمكانهِ التَّفريق بين الكلام الفوضوي والكلام المتين.
الكسلُ الفكريّ هي علَّة المُتلقّي العربي. هو ما يجعلنا نُكرِّرُ بعض الافتراضات غير الصَّحيحة. فالقارئُ لا يريدُ أن يُجهد عقلهُ في فهمِ ما يقرأ، يريدُ أن يتعامل بقانون بذل الجهد الأدنى. يريدُ أن يصلهُ المعنى بكلِّ يُسرٍ ووضوحٍ وربَّما ببعض السّذاجة! والشَّاعرُ هو الضَّحيّة، فإن كتبَ كما يكتبُ أبو تمام أو أدونيس اتُّهم بأنَّهُ شاعرٌ غامضٌ وغير مفهوم. وإن كتبَ بتسطيحٍ ليصبح الوصف لديهِ تافهًا، صورٌ تتراكمُ فوق بعضها، تتجمَّعُ كصندوقِ تبرُّعاتٍ وما عليهِ سوى اختيار ما يشاء منها؛ جُرِّدت منه الشاعرية لأنَّها لا تفتح شهيّة المُتلقِّي. النَّتيجة: غزارةُ الإنتاجِ الشِّعري ووفرته ليتغلَّب الكمُّ على الكيف! فأين الخلل؟ من يسحب من؟ هل الشَّاعر يرتفع بالقارئ إلى مستوى النَّص؟ أم على الشَّاعر أن ينزل إلى مستوى القارئ الفكريّ؟
يقضي الشَّاعرُ الحقيقي نصفَ عمره يطوِّرُ أدواته الشِّعريّة، فلا يُمكنهُ أن يظلَّ بدويًّا في أعماقهِ؛ لذا فإنَّهُ في نهايةِ الأمر سيصلُ إلى مستوى ثقافي معيَّن وكبير، من الصَّعب عليهِ أن يتنازلَ عن هذا المُستوى ليكتب بثقافةٍ متواضعة لقارئٍ ما! تتطوَّرُ المجتمعات وتزدادُ حضارةً، وعلى المُتلقِّي أن يتطوَّر فكريًّا، فالحداثة الشِّعريّة تفرضُ نفسها. لا يوجد شاعر يُريدُ أن يبقى مُتسوِّلًا على رصيف من سبقه، ولا يُريد أن يكونَ واضحًا وضوحًا يُقرِّبهُ من الحماقة ليُدْعَى بشاعرِ العامّة، ولا يُريد أن يُقالَ عنهُ شاعر -فحسب- لأنَّهُ يُجيدُ الوزن والقافية. الشَّاعرُ الحديثُ لهُ أدواتهُ الّتي يستخدمها من أجلِ التّجديد ليستطيع أن يُبدعَ حالةً من الدَّهشةِ والإنزياح الشِّعري، في محاولةٍ لإيجادِ تغيير لغويٍّ وتغييرٍ في مناطِ الصّورة بالخروج عن المألوف من الصُّور الشِّعرية ليُدهشَ عقولنا ويُثيرُ خيالنا حتَّى قبل أن نُحاول فكَّ رموزها وتفسيرها. هذا ليس غموضًا وابتعادًا عن القارئ بقدر أن يُكوِّنَ بصمةً خاصَّةً تُميِّزُهُ عن الشُّعراءِ الآخرين، ونظرًا لجاذبيتهِ الشَّديدة؛ فإنَّ الغموضَ من أساسيّاتِ الشِّعر. هو مطلبٌ أساسيٌّ لتحريكِ الخيال وتنمية الدَّهشةِ بشرط ألّا تتحول كلمات الشَّاعر وأبياتهِ وجُملهِ إلى طلاسم نحتاجُ إلى (كتالوج) يشرح معناها.
قال أدونيس: «فتنةُ الشِّعر تقودنا إلى فتنةِ الأسئلة»، وقال أبو تمام عندما سُئل: «لماذا لا تَكتبُ شيئًا نفهمه؟». أجابَ: «ولماذا لا تفهمون ما يُكتب؟».
إذًا؛ لا يستطيع الشَّاعر ألّا يهتمّ بالقارئ والمُتلقِّي. هو لا يتخيَّل قارئًا مُعيَّنًا بثقافةٍ ما ليكتبَ له. هو يكتب فحسب، وعلى القارئ -مهما كانت ثقافته ومهما كان عمرهُ البيولوجي- أن يُفسِّرَ النَّص بطريقتهِ كما يُريد.
إضافةً إلى أنَّنا يجبُ ألّا نُطالب الشَّاعر بأيّ شرحٍ أو إيضاحٍ أو تقديم تفسيرات لأنَّهُ بذلك سيضطرّ إلى سردِ مناسبة نظمه وإلى التَّحدثِ عن لحظاتِ كتابتهِ؛ وهذا سيأخذنا إلى حياتهِ الواقعية العادية واليسيرة والتَّافهة؛ وبذلك نحكمُ على هذا الشِّعر وعلى ما فيه من جمالٍ وإثارة وغموض… بالموت!
# القارئ والغموض الشعري By محمود قحطان،
من افضل ما وقعت عليه عيني مذ حاولت الكتابة ففيه الكثير من الجوبة التي كنت ابحث عنها
موضوع أكثر من رائع أخي
في الحقيقة القارئ العربي في الغالب لا تقرأ ما تكتب، وإنما يتصفحه، او يقوم بمسح سريع للمقال أو القصيدة، وإن شدته بعض الكلمات، وقتها يقرأ بإمعان، ولكن إن لم يجد أي شيء يشده، فهو يرحل دون ان يعطيك فرصة.
فكيف سيكون الحال وأنت تكتب قصيدة كلها معاني خفية، اعتقد القارئ العادي لن يعطيها حقا، إلا إذا كان من أحد المعجبين بما تكتب، وقتها يمكن أن تجده يبذل مجهودا ليفهم معاني كلماتك
– انطلاقاً من كلامك المهذب والموضوعي أعلاه، أقول أنّ التحديث في الشعر عندما أتى وبدأ يكتب به الشعراء ويجربون أنفسهم، ظلوا يعانون من هجمات قاسية جداً نتيجة العشوائية في التجريب، من حيث تركيب صور مستحدثة على هيئة تكاد تكون أشبه بطلاسم موغلة بالرمزية، واطلاق كل شاعر على قصيدته اسم المدرسة الجديدة القادمة، وهذا ليس بصحيح، مما أوجد بلبلة أساءت للذائقة الانسانية والبشرية في الحقيقة، وجعل بعض القراء يكرهون التوغل في أعماق اللغة والأوصاف كما قدمها هؤلاء الشعراء التجريبيون الجدد حينها. لكن كان منهم صامدون عملوا على أدواتهم الشعرية واللغوية وقدموا لنا فناً أدبياً راقياً ما زلنا نستمتع به كل يوم مع احتوائه على ذلك الغموض. وأنا هنا أحاول العودة في التأريخ بحثاً عمن كتبوا الغموض الأسود واستمتعوا به، لأجد أنهم قلة قليلة، فمفهوم النصّ الجميل العصري الآن تغير، وأتصور في نظري، يكمن في عمقه وبساطته ولا أقصد سطحيته، بل في كيف توصل نصك لأكبر عدد من القراء دون أن تشوه فكرتك الجميلة التي تريد أن تكتب عنها.
وبذهني سؤال أختم به كلامي، هل نظرية الغموض الشعرية تنطبق على أنواع الكتابة الأخرى كالرواية والقصة والنثر ؟ هل من الجميل أن تكون القصة أو الرواية غامضة ؟ أم أن الغموض لا يكون لذيذاً إلا مع النص الشعري ؟