قصائدي وأشعاري

ماجستير العلوم في الهندسة المعمارية: رحلتي نحو ماجستير العمارة المستدامة في جامعة القاهرة

عِبرةٌ من عُزلتي: كيف حوّلتُ كرسيّي إلى جسرٍ نحو ماجستير العمارة المستدامة؟

ماجستير العلوم في الهندسة المعمارية من جامعة القاهرة: التصميم البيئي وتحديات الإعاقة

الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصّالحات، وتُفتح أبواب الخير، وتُستنزل البركات.

بفضلٍ من اللهِ تعالى وتوفيقه، أُزهو اليوم بحمل شهادة ماجستير العلوم في الهندسة المعمارية من جامعة القاهرة، في حقل التّصميم البيئيّ وكفاءة الطّاقة في المباني [6 يناير 2025]. هي ليست مجرّد شهادة أكاديميّة تُضاف إلى سيرتي الذّاتيّة، بل ثمرة سنوات من الجهد المتواصل، والمواجهة الصّامتة بين جسدٍ يرفض الانحناء وعقلٍ يُصرُّ على التّحليق، والسّعي الدّؤوب نحو التميّز، والإيمان الرّاسخ بأنّ العلم رسالة سامية تُبنى بها الأمم، والإرادة الّتي لا تعرف الاستسلام، على الرّغم ممّا واجهته من تحديّات جسديّة وعمريّة. ففي رحلتي هذه، تحوّل الكرسيّ المتحرّك من رمزٍ للعجزِ إلى أداةٍ للإصرارِ؛ ليُصبح هذا الإنجاز شهادةً على أنّ الإيمان بالذّات، مع عون الله ودعم المحيطين، قادرٌ على تجاوز أيّ حاجز.

هذا الإنجاز، الّذي أعتزّ به كمرحلةٍ محوريّةٍ في حياتي، ما كان ليرى النّور لولا عون الله أولًا، ثمّ الدّعم اللّامحدود من عائلتي الكريمة الّتي وقفت خلفي كالسّندِ المتين، تُذلّل الصّعاب وتُشرق قلبي بالحافزِ حين تُخيّم الغيوم، فتُخفّف عنّي أعباء التّنقّل، وتُحفّزني عندما يُثقل الشّلل النّصفيّ جسدي، وتُذكّرني بأنّ العمر مجرّد رقْمٍ إزاء شغف التّعلّم، وتزرع في نفسي قِيَمًا كالصّبر والالتزام، جعلت من كلّ تحدٍّ فرصةً للنّمو. فمنذ بدأت رحلتي في الدّراسات العُليا، وأنا أحملُ همًّا مزدوجًا: همّ الطّالب الّذي يسعى للتميّز، وهمّ الإنسان الّذي يتعلّم كيف يُحوّل قيوده الجسديّة إلى سلالم للارتقاء.

مقالات ذات صلة

بدأت القصّة بخطوةٍ يسيرةٍ.. نعم، بضغطة زرٍّ على الحاسوب لإرسال طلب الالتحاق بالدّراسات العليا. لم أكن أعلم أنّ هذا الزّر سيكون بوّابةً لعالمٍ آخر، لعالمٍ حوَّلتُ فيه كرسيّي المتحرّك من سجنٍ من حديدٍ إلى مركبةٍ فضائيّة تنقلني بين مجرّات المعرفة. كنتُ أتنقّلُ به بين أركان المنزل، أحيانًا لأجمع أوراقي المُتناثرة، وأحيانًا لأتأمّل من نافذتي عالمًا يتسع لكلّ الأحلام، مهما كانت التّحديات.

لن أكذب.. الأيّام لم تكن ورديّةً دائمًا، فلا يُمكن أن تُختزل هذه الرّحلة في الجانب الأكاديميّ فحسب، فقد امتدّت لتشمل تحديّاتٍ شخصيّة ومهنيّة كثيرة، كموازنة متطلّبات الدّراسة مع مسؤوليّات الحياة، أو التّعامل مع التّعقيدات التّقنيّة في تصميم المشروعات الّتي تتطلّب دقّةً لا تُساوم، وأيّامٌ أخرى كاد اليأس يغلبني، حين كان الألم يمنعني من الجلوس لإكمال الكتابة أو القراءة والتّركيز. عندما تعطّل (الإنترنت) قبل مناقشةٍ مهمّة، فاضطررتُ لإرسال البحث بصيغةٍ صوتيّة. في اللّيالي الّتي كنتُ أنام فيها في مكاني، وأستيقظ لأجد قطّي «طواف» قد رسمَ خطوطًا عشوائيّة فوق المخطّطات بكفوفه الصّغيرة؛ ولكنّي تعلّمتُ أنّ الضّعف لحظةٌ عابرة، والعزيمة باقية.

«طوّاف».. هذا المخلوق الصّغير كان شاهدًا على كلّ شيءٍ. كان ينام فوق مخطّطاتي المعماريّة، يترك آثار كفوفه على الأوراق كختمِ موافقةٍ غامض. في إحدى اللّيالي؛ في حين كنتُ أكتبُ فصلًا معقّدًا من الرّسالة، قفزَ فجأةً إلى لوحة المفاتيح وكتب سطرًا عشوائيًّا. ضحكتُ من قلبي لأوّل مرّةٍ منذ أشهر.. ربّما أراد أن يقولَ لي: «أرحْ نفسك، فالعلم لا يُؤخذ عنوةً».

هذا الإنجاز، على الرّغم من كلّ شيءٍ، هو تتويجٌ لمسيرةٍ لم تكن سهلة. فكثيرًا ما تساءلتُ: كيف أجمع بين ألم الجسد وضغوط البحث الأكاديميّ؟ كيف أتنقّل بين أروقة الجامعة وأنا أحمل جسدًا يُعاني من الشّلل؟ لكن دعم العائلة، ومرونة الزّملاء، وتشجيع الدّكاترة، وتحفيز طلّابي، جعلوا كلّ خطوةٍ صعبةٍ تُترجَم إلى إرادةٍ تُحطّم القيود؛ حتّى إنّ تصميم المشروعات المعماريّة، تحوّل إلى تمرينٍ يوميّ في الصّبر؛ إذ تعلّمت أن أستخدم التّقنيّة المساندة كجسرٍ لتحقيق رؤيتي الفنيّة.

المفارقة أن أعمق الدّروس لم تأتِ من الكتب، بل من الصّمت. في عزلتي، اكتشفتُ أنّ الإبداع يُولد حين تُحاصرك العوائق. صمّمتُ مشروعي مستخدمًا تقنيّة الواقع الافتراضيّ لاختبار كفاءة الطّاقة في المباني. الأساتذة ظنّوها «ثورةً في التّصميم البيئيّ»، وأنا عرفت أنّها ثورةٌ على كلّ مَن ظنَّ أنّ الإعاقةَ تُغلقُ الأبوابَ.

ولا يسعني إلّا أن أنحني إجلالًا لأساتذتي الأفاضل، خاصّة الأستاذ الدّكتور/ محسن محمّد أبو النّجا، مشرفي الكريم، الّذي لم يكتفِ بتوجيهي أكاديميًّا، بل أظهر تفهّمًا نادرًا لوضعي الصّحيّ، فكان يُعدّل جدول الاجتماعات ليتناسب مع أوضاعي، ويُذكّرني بأنّ العقل السّليم هو أساس الإبداع المعماريّ. وأتوجه بالشّكر الجزيل لأعضاء لجنة المناقشة الأستاذ الدّكتور/ أيمن حسّان أحمد محمود، والأستاذ الدّكتور/ مراد عبد القادر عبد المحسن، الّذين رأوا في بحثي قيمةً تستحقّ النّقاش، على الرّغم من معرفتهم بتحديّاتي الحركيّة.

هؤلاء الأساتذة، روّاد العلم والمعرفة، الّذين أغرقوني من بحور خبرتهم، وتعلّمتُ منهم أنّ العمارة ليست مجرّد جدران وأسقف، بل هي فلسفة تعكس هُويّة المجتمع، وتُحاكي احتياجات الإنسان، وتُصارع تحديّات البيئة. لقد سخّروا وقتهم لتوجيهي في بحوثي الأكاديميّة، وفتحوا لي آفاقًا جديدةً نحو الابتكار، خاصّةً في مجال العمارة المُستدامة التي تُعنى بالتّوازن البيئيّ والذّكاء الإنشائيّ.

ولا أنسى جامعة القاهرة التي وفّرت لي الدّعم الأكاديميّ، وزملائي الباحثين وطلّابي الأعزاء في مجال الهندسة المعماريّة والأدب، الذين حوّلوا محاضراتنا إلى جلساتِ إلهامٍ متبادَل، فمنهم تعلّمتُ أنّ الإبداعَ لا يعترف بالعمر أو الإعاقة، وأنّ التّحدي المشترك يُذيب الحدودَ بين المعلم والمتعلّم. فأنتم –بأسئلتكم النّابضة بالفضول– علمتموني أن أصبرَ على الألم، وأبتكرُ حلولًا تُحقّق التّوازن بين متطلّبات الجسد وطموح الرّوح.

واليوم، وأنا أخطو نحو الخمسين، أدركُ أن هذه الشّهادة ليست مجرّد درجة علميّة، بل رسالةٌ أبعثها لكلّ من يعاني: لا تدع الجسد يُقيّد أحلامك، ولا تجعل العمر يحكم على طموحك بالتّوقّف. فكما قال أحدهم: «الشّموع لا تنطفئ حين تحترق، بل تضيء دروبًا للآخرين».

ولأنّ التّخرّج ليس نهاية المطاف، بل بوّابةٌ لأفق أرحب من الطّموح؛ أنوي بمشيئة الله مواصلة رحلتي نحو الدّكتوراه، والإسهام في أبحاث تُعنى بتطوير مواد بناء صديقة للبيئة، أو تصميم مدن ذكيّة تُلبّي احتياجات المستقبل، وتُبنى بإرادة مَن يُسمَّون «ذوي الإعاقة»؛ إذ تكون التّقنيّة لغةَ حوارٍ بين العقل والكون، ولن أنسى أن أردّ جزءًا من جميل العلم بتدريس الأجيال المُقبلة؛ لأنّ نقل المعرفة واجبٌ أخلاقيُّ يُنمّي المجتمع. ربّما سأكتبُ كتابًا عن هذه الرّحلة، ليس لتمجيد الذّات، بل لترك خريطة لمن سيأتي بعدي، كي يعرف أنّ أسوار اليأس وهميّة.

أخيرًا.. لكل مَن يقرأ هذه السّطور:

أسأل الله أن يجعل هذا العلم نبراسًا للخير، وأن يجعل هذا العلم نورًا يهديني، وأداةً أخدمُ بها الإنسانيّة، ولَبِنَةً في بناء أوطاننا. وأدعوه أن يكافئ كلّ من ساندني بخير الجزاء، وأن يجعل جهودهم في ميزان حسناتهم. وأشكر كلّ من دعمني، خاصّةً من رأى في كرسييّ المتحرّك دافعًا للعطاء لا عائقًا، ومن آمن بأنّي قادرٌ على صنع فرقٍ على الرّغم من كلّ العوائق، وإن شاء الله، لن يكون هذا الإنجاز إلّا محطّة إلهامٍ لنجاحاتٍ مُقبلة، وبدايةً لإسهاماتٍ أكبر في مجال العمارة المُستدامة، تُثري مسيرتي وتُسهم في صنع عالمٍ أجمل، وفي تعليم الأجيال أنّ الإرادة تُبنى من داخل الرّوح، لا من قوّة الجسد.

والحمد لله رب العالمين، الّذي جعل من التّحديّات منصّاتٍ للعروج نحو السّماء.

 

همسة: لا تنتظر أحدًا ليُمسك بيدك، ولا ترهن أحلامك بعوائق عابرة. ابدأ الآن، من حيث أنت، بما لديك. واعلم أنّ أعظم المباني تُشيّد أولًا في الخيال، قبل أن تُنحت في الحجر.

# ماجستير العلوم في الهندسة المعمارية: رحلتي نحو ماجستير العمارة المستدامة في جامعة القاهرة By #محمود_قحطان،

 

محمود قحطان

استشاريٌّ مِعماريٌّ باحثُ دراساتٍ عُليا في التّصميم البيئيّ وكفاءة الطّاقة في المباني. مُدقِّقٌ لُغويٌّ، وشاعرُ فُصحى. أحد الشُّعراء الَّذين شاركوا في موسم مُسابقة أمير الشُّعراء الأوّل في أبوظبي، حيثُ اختير ضمن أفضل مئتي شاعر من ضمن أكثر من (7500) شاعرٍ من جميع أنحاء العالم. نُشِرت عنه رسالة ماجستير، ونُشر عددٌ من إنتاجه الشّعريّ في الصّحفِ المحليّة والعربيّة، وتُرجِم بعضها. أصدرَ أربعة دواوين شعريّة وكتابًا نقديًّا. مؤمنٌ بالفكرِ الإبداعيّ وأنّ كلّ ذي عاهةٍ جبّار!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!