الشاعر والروائي
الشاعر والروائي
ما الّذي يجعلُ شاعرًا ما، يتَّجهُ إلى كتابةِ الرِّواية؟ هل بسببِ انحسارِ جمهورِ الشِّعر وتمركزه في أدبِ الرِّوايات؟ هل يبحثُ الشَّاعرُ عن مجدهِ الشِّعري الضَّائع أو المنسيّ في صورةِ الرِّواية؟ وهل يصلحُ أيّ شاعرٍ أن يكتبَ روايته؟ لماذا لم يتَّجه إلى كتابتها شُعرائنا الكبار، أمثال: محمود درويش، أدونيس، نزار قبَّاني؟
تحملُ كلّ روايةٍ في داخلها طاقةً شعريّة مُدهشة. فمتَى تقولُ عن نصٍّ ما إنَّهُ شعريٍّ؟ إذا كانَ كاتبهُ يأخذُنا إلى ما وراءِ الخيالِ، وحين يجعلنا شُركاء معه في وصفهِ، وحين يجعلنا مأخوذين بالمشهدِ الّذي يعرضهُ، فنسبَحُ في حقولِ رؤاهُ، تلك الحقول الّتي تأخذنا إلى جميعِ الأمكنةِ والأزمنة.
يسعى الشاعر والروائي إلى تأصيل رؤيتهما وذلك بالاستجابة إلى الواقع الإنساني المُعاش، يتقاطعان في الزّمن، ويستندان إلى رغبتهما في التّعبير ونقل الإحساس من اللّاوعي إلى الوعي بوساطة الشّعر الّذي يسردُ أفعالًا وأحداثًا زمنيّة؛ لذلك لا يُمكن ألّا تحوي القصيدة شيئًا من السّرد، ولا يُمكن أن تخلو الرّواية من بعض الشّعر. يُسجّلُ الشّاعرُ اللّحظةَ، ويُسجّلُ الرّوائي اللّحظة، يستخدمانِ اللّغة الّتي تُؤدّي وظيفتها حينَ تضمنُ لنا معنى الكلام بصورتهِ النّثريّة أو الشّعريّة؛ لذلك فإنَّ هناك ترابطًا بينهما، وما أكثرَ القصائدِ الّتي كُتبت كقصصٍ شعريَّة، حيثُ يتلاعبُ الشّاعرُ باللّغةِ ليُنتجَ كلامًا مُنتّظمًا يُصاحبه إيقاعٌ صوتي، وينقلُ الرّوائي الأحداث ويسردها مُستعينًا بعناصر بناء الجُملة الشّعريّة، ويُرتّبها ليخلقَ المعنى القصصي.
لأنّ قصيدة النّثر نوعٌ من أنواع الشّعر الّذي يعتمدُ أو يقتربُ من السّرد؛ فإنّها تُعدُّ عملًا إبداعيًّا يمزج بين الشّاعريّة والقصّصيّة في التّكوين اللّغوي، وذلك باستخدام التّراكيب اليوميّة والواقعيّة استخدامًا جماليًّا يرتفعُ بلغة الرّواية السّرديّة؛ إذًا الرّواية تستغلّ إمكانات الشّعر النّثريّة لتخلقَ جُملًا نثريّة شعريّة ذات إيقاع داخلي، وفيها من الصّور الفنيّة ما يُقرّب سقفها من حدود الشّعر، خاصّة عندما يُحاول الرّوائي تقليل الإحساس بالواقعيّة وتجاوزها بكثيرٍ من الخيال.
يستعملُ الشاعر الكلماتِ العاديَّةِ لبلورةِ أفكارهِ في قالبٍ شعريٍّ موزونٍ أو منثورٍ، وكثيرًا ما تتشابهُ العبارات في قصيدةٍ ما، وبين الرِّواية، فالنَّصُّ الشِّعري: هو نصٌّ كبقيّة النُّصوصِ؛ ولكنَّهُ يبدو مُختلفًا بسببِ احتوائهِ الوزنِ والقافية؛ أي إنَّهُ يختلف عن الكلامِ العادي بوجودِ إيقاعٍ وموسيقى. ترتيبُ الكلماتِ وتسلسلها وطريقةُ ترابطها؛ هو ما يخلقُ الصُّور الشِّعريّة، وهو ما يجعلنا نُطلقُ على نصٍّ ما بأنَّهُ نصٌّ شعريٌّ أيضًا.
مهما قرأت من رواياتٍ، ستُدهشُ من عددِ المقاطعِ الشِّعريّةِ، يُمكننا القولُ: إنَّ الرِّوايةَ نصٌّ شعريٌّ منثور. قد لا تشعر بوجود الشّعرِ في الرِّوايةِ؛ وذلك بسبب ظهور تلك المقاطع الشّعريّة في عددٍ محدودٍ من صفحاتِ الرّوايةِ؛ ولكنّك مع مزيدٍ من التّركيزِ ستكتشفُ أنّ المقاطعَ الشّعريّةَ تتوزّعُ على عُمرِ الرّوايةِ لترتبطَ كمجموعةٍ، وتلتقي في مضمونٍ واحد.
الفرقُ بين الرِّوايةِ العاديّةِ والرِّوايةِ الشِّعريّةِ؛ يُشبهُ الفرقَ بين الجُملِ الشِّعريَّةِ الّتي ترتبطُ ببعضها بعضًا ارتباطًا وثيقًا كالقصيدةِ، والمقاطعِ الشِّعريةِ الّتي نقرؤها مُتفرّقة ضمنَ عملٍ روائيٍّ، فتبدو لأوَّل وهلةٍ كأنَّها مقاطع نثريَّة بحتة؛ ولكن مع إعادةِ القراءةِ واستمرارها يظهرُ مدى شِعريّتها. يكتبُ الشاعر والروائي بناءً على اللَحظةِ الّتي يعيشُها في عالمهِ الحقيقي الواقعي. لذا؛ هُما يُعبِّران عن لحظةٍ ما ضمنَ هذا العالم الكبير؛ فيصادقا الأشياء والكلمات.
# الشاعر والروائي By محمود قحطان،
مقالة رائعة فعلا انت مبدع
شكرًا لكِ.