كليات القمة ووهم المصطلح
- كليات القمة ووهم المصطلح
- أثرُ المصطلح
- كلّها قمّة
- الأسباب
- اختلاف المُصطلح
- ختامًا
كليات القمة ووهم المصطلح
عندما اخترتُ حقل العِمارة ليكون مجال دراستي، لم أكُن أعرفُ مُصطلح كليات القمة الّذي يضمُّ تحت جناحيه كليّتي: الهندسة والطّب، في الجانب العلمي، وكليّة الإعلام في الجانب الأدبي؛ وكليّات أُخرى مثل: الصّيدلة والأسنان والاقتصاد والعلوم السّياسيّة والألسن؛ ولكن كلّيتي الهندسة والطّب البشري تحديدًا هما الأكثر شيوعًا والأعلى شأنًا في نظر المجتمع المُنحرِف.
هذا المُصطلح السّخيف يعني أنّ ثمّة كليّات قاع. يعني أنّ كليّاتٍ تتميّزُ بالوَجاهةِ الاجتماعيّةِ وكليّات تتميّز بالدّنو. كليّاتٌ ذكيّةٌ وكليّاتٌ غبيّة؛ في حين أنّ النّظرةَ الإيجابيّة والمُحايدة دون تعصّبٍ تُشيرُ إلى أنّ كلّ كليّةٍ هي كليّةُ قمّةٍ في ذاتها، وجميع التّخصّصات هي تخصّصات قمّة: الاقتصاد، والسّياسة، والحقوق، والتّجارة، والمجالات الأدبيّة، والمجالات العلميّة… إلخ، كلّها في القِمّة ما دام يستفيدُ منها المُجتمع ولا يُمكنه الاستغناء عنها.
ليسَ مُهمًّا أن تنتمي إلى كليّةٍ من الكليّاتِ الّتي اتّفقَ المُجتمعُ -قاصر النّظرة- على أنّها من كليّاتِ القمّة؛ لأنّ القمّة ليست حِكرًا على كليّاتٍ مُحدّدةٍ. المُهمُّ أن يُحقّقَ الطّالبُ ذاتهُ في الكليّةِ الّتي أحبّها واختارها، فمجهوده وتميّزهُ ونجاحهُ هو الّذي سيضعهُ على القمّة.
ماذا سيستفيدُ المُجتمعُ منَ الطّبيبِ الفاشلِ والمُهندسِ المُهملِ والإعلامي المُضَلِّل؟ هل الكليّةُ هي الّتي تبني القمّةَ، أم الفردُ هو الّذي يُمكنه بوساطة تعليمهِ وإبداعه في تخصّصه أن يبنيها؟
لماذا خرّيجوا دار العلوم والآداب والتربية ليسوا من كليات القمة (من وجهةِ نظر المجتمع) معَ أنّهم من يُعلّمُ الطّبيب والمُهندس والإعلامي ورئيس الدّولة… وكلّ فردٍ في هذا المُجتمع؟
أثرُ المصطلح
يُؤثّرُ مصطلح كليات القمة في نفسيّةِ الطّلّابِ بفقدانهم الثّقة، ويؤصّلُ العنصريّةَ الاجتماعيّة والعلميّة بينهم. صنعَ هذا المُصطلح فجوةً كبيرةً في المُجتمعِ وقسّمهُ إلى صنفينِ من البشرِ: أنت في كليّة قمّة إذًا أنت ذكي ومُجتهد ومُبدع، أنت في كليّة قاع يعني أنّك أخفقت في درجاتك فلم تستطع الحصول على المُعدّل المطلوب لتُصبح في القمّة… وهكذا ممّا يشطرُ المجتمعُ إلى نقيضين.
كلّها قمّة
معَ أنظمةِ التّعليمِ السّائدةِ حاليًّا الّتي فقدَ فيها التّعليم قيمته؛ صارت كلّ الكليّاتِ مُتشابهة، ولكي تنهضُ الأمم وترتقي الشّعوب، نحتاجُ إلى جميع التّخصّصاتِ، فكلّ الكليّات يكمل بعضها بعضًا؛ ولكن لا يزال الأهل والأبناء يتداولون مصطلح كليات القمة؛ معَ أنّ واقع مُتطلّبات سوق العمل وارتفاع نسبة البطالة أدّت إلى تدميره. فالواقعُ يُشيرُ إلى أنّ خرّيجي كليّاتِ الحقوقِ والتّجارةِ مثلًا، يجدونَ فرصَ عملٍ ووظائفَ أكثر مُقابلةً بخرّيجي الهندسةِ والطِّبِّ، وأنّ (80%) من الحاصلين على شهادة الإعلام لم يعملوا في مجال الإعلام أو الصّحافة، ونحو (30%) من المُهندسين لا يجدون وظيفةً، وسنلاحظُ أنّهُ بسبب ارتفاع نسبة البطالة، وقلّة المُرتّبات الّتي يحصلُ عليها خرّيجوا تلك الكليّات، سافر مُعظمهم إلى الخارج للبحثِ عن فرصةٍ أفضل لتحسين مُستواهم الاجتماعي. فمثلًا أفادت نقابة الأطباء المصريّة عن هجرة (120) ألف طبيبٍ مصريٍّ من مجموع (220) ألف مسجل لديهم.
لذلك على المُقبلين على الدّراسةِ الجامعيّة معرفة مُتطلّبات سوق العمل، وعلى الأهل تشجيع أبنائهم على دراسة ما يرغبونَ بهِ ومساعدتهم على تنمية مهاراتهم الشّخصيّة، وعدم تعريضهم للضّغطِ النّفسي بإجبارهم على الالتحاقِ بكليّاتِ لا تُناسبُ قدراتهم، فعادةً يرسبُ نحو (50%) من الطّلبةِ في عامهم الأوّل لالتحاقهم في كليّاتٍ تحت مُسمّى كليّة قمّة؛ لذلك يجبُ ألّا يُصنّف الطّلّاب بناءً على مُعدّلاتهم، وإنّما على ميولهم وقدراتهم.
الأسباب:
قد تكون الثّقافة السّائدة في أنّ كليات القمة تضمنُ النّجاح المادّي والوَجاهة الاجتماعيّة وإمكانيّة تطوّر مُستقبلها هي سبب شيوع هذا المصطلح. هذه الثّقافة وإن أثبتت نجاحها مُدّةً من الزّمنِ -وإلّا لما سادت- ثبُت ضعفُها في الواقعِ العملي؛ لأنّ كلّ شخصٍ ناجحٍ في تخصّصهِ يعني أنّهُ في القِمّة في مجالهِ.
حتّى إنّ شاغلي المناصب الكبيرة ليسوا من خرّيجي كليات القمة. فكثيرةٌ جدًّا نماذج الأشخاص الّذين لا ينتمون إلى كليّات القمّة ومع ذلك هم في القمّة نتيجة اجتهادهم وحبّهم لما درسوه. على سبيل المثال: أحمد زويل الّذي تخرّج في كليّة العلوم وحصل على جائزة نوبل، ونجيب محفوظ الّذي تخرّج في كليّة الآداب وحصل على جائزة نوبل.
تاريخيًّا: هل تعلم أنّ كليّة الحقوق في مصر كانت في أوائل القرن العشرين تُعَدُّ من كليّات القمّة لأنّه كان يتخرّج فيها مُعظم الوزراء والزّعماء السّياسيّين؟ فما الّذي تغيّر؟ ثقافة المُجتمع.
اختلاف المُصطلح
تختلفُ المجتمعات العربيّة في تعريفها لكليّات القمّة، فمثلًا في لبنان تُعدّ كليّة الحقوق كليّة القمّة بعد الطِّبِّ، أمّا في المغرب فكليّة الإعلام، وفي الجزائر كليّة التّجارة، وكليّة العلوم ستكون من كليّات القمّة في الدّول الّتي تهتمُّ بالبحثِ العِلمي.
ختامًا:
نظرةُ المُجتمعِ إلى كليّاتٍ بعينها على أنّها كليّات قمّة أدّت إلى إخراج جيلٍ غير واثقٍ من نفسهِ، يشعرُ بالفشلِ لأنّه لم يُحقّق حُلم والدَيهِ بالانتماء إلى كليّةٍ من كليّاتِ القمّة.
أدّت هذه النّظرة أيضًا إلى تكدّس أعداد خرّيجي تخصّصاتٍ مُعيّنةٍ على حسابِ تخصّصاتٍ أُخرى ربّما هي أكثر فائدة للمُجتمع. إضافةً إلى أنّهُ ومعَ استمراريّة شيوع هذا المُصطلح إلّا أنّ الطّلبة أنفسهم والخرّيجين في هذه الكليّات يُؤكّدون أنّ هذا المُصطلح ما هو إلّا وهم؛ وذلك وَفقًا لما عرفوه من مُتطلّبات سوق العمل وارتفاع نسبة البطالة؛ لذلك على الطّلّابِ النّاجحين الالتحاق بالكليّاتِ الّتي تُناسب ميولهم وتتّفق معَ قدراتهم دون وضع مجموع الدّرجاتِ في الاعتبار؛ ليضمنوا التّميّز والنّجاح والبروز في مجالهم، ما يعودُ بالنّفعِ على أنفسهم وعلى المُجتمع.
نسيتُ، قبل أن أختم، ذكرتُ أنّني لم أكُن أعرف أنّ الهندسة من كليات القمة. حسنًا، ما الّذي تغيّر بعد أن عرفتُ؟ لا شيء. لأنّه لم تكُن تعنيني نظرةُ المُجتمع قبل أن أعرفَ لأهتمّ بها بعدَ أن عرفتُ، المُهمّ كيف أنظرُ أنا إلى نفسي، أليس كذلك؟ 🙂
# كليات القمة ووهم المصطلح By محمود قحطان،