مقالات في العمارة والأدب والحياة

هل مات الشعر واحتضر الشعراء

هل مات الشعر واحتضر الشعراء

هل مات الشعر واحتضر الشعراء كما يدّعي كثيرون؟ ليس هناك شكٌّ في أنّ الشِّعرَ مرّ بمراحل تدنّي، ورُبّما يكون ثمّةَ فائضٌ غزيرٌ جدًّا من الشُّعراءِ المُتكدّسين فوقَ بعضهم والمحشورين في زاويةٍ ضيّقة؛ ولكن هذا لا يعني أنّنا نفتقرُ إلى الشُّعراءِ الجيّدين. يُمكنُ القول إنّ لدينا وفرةً من الشُّعراءِ السّيئين الّذين يحتشدون في الأجواء، ويملؤون العالم بكتاباتٍ لا قَرابةَ لها بالشِّعرِ وتفتقدُ إلى الجاذبيّة.

من الصَّعبِ تعريف الأشياء الجماليّة بدقّةٍ مثل الشِّعر، وكيفَ نُعرِّفهُ  تعريفًا حقيقيًّا بعيدًا عن الزّيف؟ في كثيرٍ من الأحيان، يعتمدُ الشِّعرُ على استجاباتٍ جسديّةٍ أو ما يحتويهِ من استعاراتٍ، فالشِّعرُ هو السّخونةُ الّتي تسري في جسدك عندما يكونُ باردًا أو هو الرّمادُ النّاتجُ عن احتراقِ القصيدة!

بالتّأكيد يُمكن للشِّعر أن يُؤثِّرَ في القارئ. لكن بعض ردود الفعلِ قد تكون مُتقلّبةً أو غريبةً أو انطباعيّةً أو ذاتيةً غير قابلةٍ للتّفسير. لنُحاول تعريف الشِّعر: القصيدةُ هي تجميعٌ للكلماتِ يُمكن التّعرّف إليها وتتميّز بجديّة الهدف، والأناقة اللّفظيّة أو المُلاءمة، والطّاقة الاستطراديّة والمنطقيّة، والحيويّة المجازيّة، والبُنية التّحليليّة. إنّها تُحاولُ أن تجدَ طريقةً للتّعرّفِ إلى العالمِ الغامضِ والصّاخبِ في حياةِ كلّ شخصٍ. هي تكبحُ الفوضى بوساطةِ أداةٍ لُغويّةٍ صارمةٍ مع ترويضها لتماسكِ المعنى وإيجاد النّظام.

مقالات ذات صلة

مقال مُميّز: الشِّعرُ أسلوب حياة

عندما لا تُقيّمُ اللّغةُ الصّادقةُ والبليغةُ ويُحترمُ الرّنينُ اللّفظي والذّاكرةُ الثّقافيّةُ الشِّعريّةُ بوجهٍ عام. إضافةً إلى التّركيز على عالم (الإنترنت) –فيسبوك وتويتر وغيرهما- بالتّأكيد سينخفض مُستوى الشِّعر في هذا العصر الّذي يبدو كلّ شيءٍ فيه مُزيّفًا. إنّ أيّ شيءٍ يمسك خيال الملايين لا يُمكن أن يكونَ مُجرّدَ شعرٍ. أيّ شيءٍ يُمكنُ أن يحفظهُ النّاسُ ويُردّدونه صار من الصَّعبِ جدًّا أن نجدهُ في أيّ شِعرٍ حديثٍ.

لا يهتمُّ مُعظم الشُّعراء اليوم بالتّواصل مع القارئ العادي أو المُتعلّم ويفتقر الجزء الأكبر منهم إلى قولِ أيّ شيءٍ لا يُنسى أو أن يُقتبسَ عنه. تميلُ لغة قصائدهم إلى أن تكون تعليميّةً أو بعيدةً عمّا ترمي إليه وتستهدفهُ، أو وعظيّة، أو مُفسدة للنّظام الشِّعري ونظام القصيدة. يُمكنُ للشِّعرِ أن يُثيرَ أسئلةً حقيقيّةً، ويقترحُ طرائقَ للتّحدّثِ عن الأجوبةِ. في الشِّعرِ أنت تُحاول توصيل شيءٍ إلى الآخرين حتّى يتمكّنوا من تجربة ما تختبرهُ وربّما توسيع منظورهم. كثيرًا ما يكتب الشُّعراءُ الأفكار في البيتِ أو السّطر الشِّعري لأنّها لا تُنسى. إنّ القصيدةَ هي فنُّ الذّاكرة! إنّما يحتاجُ الشَّاعرُ إلى وقتٍ لتنميةِ القُدرةِ على قولِ ما يُريدهُ بحيث يتمكّن الآخرون من رؤيتهِ/سماعه.

في الغالب الشِّعر ليس أكثر من ترتيبِ معلوماتٍ في تسلسلٍ مُعيّنٍ ومن دون نيّةٍ خاصّةٍ أو تحديدِ النّهاية. كثيرٌ من الشِّعر لا يُخاطب الجنس البشريّ عن الجمالِ أو يُخبرهم عن المعنى من ورائه. يجبُ أن يكونَ من الواضحِ أنّ الشِّعرَ الّذي يحتاجُ إلى (روبوتات) لقراءته قد يتكوّن من الكلماتِ الّتي تبقى على قيدِ الحياةِ ولكنّها ليست الكلمات الّتي بمقدورها أنْ تعيشَ. الوقتُ مائعٌ؛ ولكن اللّحظةَ محدودة في سطرٍ أو في بيتِ شِعر، والتّجربة لا ملامحَ لها لأنّها ضمن المقطعِ الشِّعري، وتماسك النّصّ هو جزءٌ من التّكافؤ النّفسي. العالمُ يُعاني والشَّاعرُ يُعاني في الوقتِ ذاته، ويجبُ على الشَّاعرِ أن يكونَ حذرًا من أن يحجبَ التّركيز -ما بعد الحداثة- على الذّاتِ البراعةَ واللّياقة.

تُعبّر القصيدة عن صورةِ الحياةِ في حقيقتها الأبديّة، وفي الوقتِ الّذي من المُفترض أن تُحاكي فيه القصيدة تكوينها الخاص، قد تبدو قديمةً وغير مُبهجةٍ للشُّعراءِ المُعاصرين، أو هكذا يودُّ المرءُ أن يُفكّرَ، أنّ الشِّعرَ ليس ميّتًا فحسب، إنّهُ مُتحلّل! ماتَ الشِّعرُ في العصرِ الحديث، ثمّة إحصائيّة تقولُ إنّ نحو ستّة أشخاصٍ يشترونَ شِعرًا جديدًا ولكنّهم لا يشعرونَ بحالةٍ جيّدةٍ جدًّا بعد قراءته، وقالَ أحدهم إنّ الشُّعراءَ يُشبهونَ خدمةَ البريدِ، مجموعةٌ من النّاسِ يفعلونَ شيئًا ما لم نعدْ نحتاجُ إليه، إضافةً إلى أنّ ما يُدّعى أنّه شعرٌ إمّا هو عذابٌ أو هُراءٌ غامضٌ أو رطانةٌ… إنّهُ شِعرُ الغيبوبة! مع أنّ بعضَ الشِّعرِ الحديث لهُ جاذبيّةٌ واسعةٌ في حين لا يزال لا يلتزم بمعاييرَ عاليةٍ إلى حدٍّ ما.

يوجدُ اختلالٌ هائلٌ في المنظومةِ الشِّعريّة، والقصيدة لم تعدْ تبيع، وتتهرّبُ دورُ النّشر من كتبِ الشِّعر لأنّها -في الأساس- ليست أكثر من دكاكين للبيعِ والشِّراء، وما داموا لن يكسبوا مالًا من شِعرك فلتستمرّ هذه الأزمة الّتي تُشيرُ إلى انعدامِ فهمهم للفنِّ الحقيقيّ وكذبِ تجربتهم في نشرِ الثّقافة، فهم عازمونَ على عدمِ الفهمِ مع ادّعائهم الجدّيّة! تمنحُ الحكوماتُ الشّرعيّةَ للشِّعرِ، لا يوجدُ مالٌ في كتابةِ الشِّعرِ؛ لذلك يجبُ أن ينتهي مآل الشُّعراءِ في مجمّع الحكومةِ أكاديميًّا، وتتعالى السّياسةُ على الشِّعرِ باستثناءِ الشِّعر السّاخر الّذي يستهدفُ السّياسة.

لو تأمّلنا الأمرَ جيّدًا لوجدنا أنّ مُعظم من يقرؤون الشِّعرَ يكون من تأليف شُعراء ماتوا قبل أكثر (50) سنةٍ في الأقل باستثناء بعض الأسماء، فهل يُشيرُ هذا إلى موتِ الشِّعر؟ إنّ بعضَ الشِّعرِ خالدٌ؛ إنّما في المُجملِ فإنّ القصائدَ السّيّئةَ تفوقُ عددَ الشُّعراءِ! مثلما يرفضُ كثيرونَ الموسيقى الحديثة والأغاني الهابطة ويستمعون إلى الأساتذةِ القُدماء، يرفضُ كثيرونَ الشُّعراءَ المعاصرين، ويعودونُ إلى شُعراءِ الماضي. هذه ليست مجرّد التّقاليد؛ إنّه اعترافٌ أنّ هناك شيئًا مفقودًا من المنهجِ الأدبيّ الحديثِ والموجودة في روائعِ الماضي.

في الثّقافاتِ -قبلَ القراءةِ والكتابةِ- كانَ الشِّعرُ والأغنيةُ بمنزلةِ مساعد الذّاكرةِ، وربّما يكونُ ارتباطنا بهما ميزةً وراثيّةً للبقاء؛ إلّا أنّ وصولَ (السّينما) سرقَ جمهورَ الشِّعرِ، وأنهى دورَ الشِّعرِ كمُحدّدٍ لُغوي.

قتلتِ المدارسُ العامّةَ الشِّعرَ والأدبَ -بوجهٍ عامٍّ- من طريقِ توظيفِ مُعلّمينَ جاهلين ومجهولينَ ليكونوا مسؤولين عنِ الأطفال. في هذه الأيّام لا يستطيعُ المدرّسونَ الكتابةَ. في الواقعِ لم يتّصلوا بالأعمالِ الكلاسيكيّة، فماذا تتوقّعون؟ كثيرٌ من المدرّسين لا يفهمونَ القواعدَ اللُّغويّةَ المناسبة. لا يجري تعليمُ الأطفالِ كيفيّة كتابة أسمائهم. كيف يُمكن لأيِّ شخصٍ أنْ يتوقّعَ منهم أنْ يكونوا قادرينَ على وضعِ أفكارهم في قصيدةٍ؟!

كان الفنُّ التجريديّ في الفنِّ معادلًا مفيدًا للفنِّ التّقليدي؛ ولكن التّجريد المُبالغ فيه دمّرَ الفن. بالمثل، كانت قصيدةُ التّفعيلة نقيضًا مفيدًا للقافيةِ والوزن؛ ولكن قصيدة النّثر الّتي شاعت دمّرتِ الشِّعرَ.

كلُّ الفنِّ هو عن جعلنا نشعرُ، والشِّعرُ لا يُمكنك إلّا أن تشعرَ به. من المُفترض أن يكونَ الشِّعرُ مُوحيًا؛ إلّا أنّ الغالبيّة من النّاسِ يجهدون لفهمِه؛ ولكن هذا لا يعني أنّهم غير قادرين على فهمِ عبارةٍ جيّدة وإدراكِها. يجبُ أن تكونَ الكلماتُ هي موسيقى الأفكار الّتي تحتويها. يُمكنك أن تجعلَ هذه المُوسيقى عالية أو مُعذِّبة وعندئذٍ ستفشل. الكلماتُ هي مجرّد وسيلة النّقل الّتي توصلُ بها أفكارك. يُمكن أن تنقلها على عرباتٍ تجرّها دوابٌ على كُثبانٍ رمليّةٍ أو سيّارة (ليموزين). المُهمّ هو الوصول. الأسلوبُ مُهمٌّ أيضًا؛ ولكن في النّهايةِ ستصلُ الأفكار.

إنّ ادّعاءَ أنّ الشِّعرَ ميّتٌ، أمرٌ سخيفٌ تمامًا، مثل الادّعاء بأنّ الموسيقى ميّتةٌ بعد الاستماعِ إلى ما يجري تشغيلهُ في الرّاديو والتّلفاز وغيرهما. إنّهُ ليس ميّتًا. عليك أن تعرفَ -هذه الأيّام- إلى أين تذهب للبحثِ عنهُ. يحتاجُ المرءُ إلى إلقاءِ نظرةٍ إلى الصّحفِ المحليّة والمجلّات الأدبيّة للعثورِ على قراءاتٍ شعريّةٍ وفحصِ كتب الشِّعرِ الأعلى في السّنواتِ القليلةِ الماضية، والبحث في دور النّشرِ الّتي تنشرُ الشِّعرَ الجيّد. الشِّعرُ لم يمُت. الشِّعرُ هو موسيقى الحياةِ المعبّر عنها بالكلماتِ. لن يموتَ أبدًا. الشِّعرُ المتعجرفُ هو الميّت. الشِّعرُ المتعجرفُ هو الشِّعرُ الّذي يُجيدهُ قلّةٌ مُختارةٌ من الّذين يُمكنهم القراءةَ والكتابةَ ولكن ليسَ لديهم المهارات اللّازمة لوضعِ القصيدةِ في قالبٍ موسيقيّ. إنّهم الأشخاصُ الّذين يُمكنهم تمييز أنفسهم بإجراءِ مُحادثاتٍ حصريّةٍ مع الآخرين الّذين يُناقشونَ قصائدَ لم يسمعوا بها قط، ولا يُمكنهم فهمها كثيرًا.

الشِّعرُ ميّتٌ حينَ يفقدُ تفرّده، ويُمكنُ القولُ إنّ الشِّعرَ تُوفّي عندما توقّفَ الشُّعراءُ عنِ الكتابةِ لإمتاعِ الجماهير وبدأوا يكتبون لإثارة إعجاب بعضهم بعضًا. إنّما في الحقيقةِ الشِّعرُ لم يمت. الحداثةُ ماتت، والشِّعرُ لا يزال يُعاني في براثنها المروعة.

في الوقتِ الحالي لا شيء -تقريبًا- ممّا نقرأهُ الآن بافتراضِ أنّهُ شعرٌ هو شعرٌ فعلًا، وسواء ماتَ الشِّعرُ أم لا، تستمرُّ نظريّة تحلّلهِ في الازدهار. هنا المُعضلة، فإذا كانَ الشِّعرُ ميّتًا، فإنّ موقفَ الشَّاعرِ الافتراضيّ هو تجربةُ شيءٍ جديد، أيّ شيءٍ لا يُفهمُ تقليديًّا على أنّهُ شِعرٌ ولكنّهُ مدعومٌ بنظريّةِ الشِّعرِ وأحكامهِ؛ وإلّا سيظلُّ الشّاعرُ يسعى سعيًا هادئًا في عصرٍ مُظلمٍ على أمل أن ينهضَ من جديد.

# هل مات الشعر واحتضر الشعراء By محمود قحطان،

محمود قحطان

مدقق لغوي، وشاعرُ فُصحى، ومُهندسٌ مِعماريٌّ. أحد الشُّعراء الَّذين شاركوا في موسم مُسابقة أمير الشُّعراء الأوّل في أبوظبي، حيثُ اختير ضمن أفضل مئتي شاعر من ضمن أكثر من (7500) شاعرٍ من جميع أنحاء العالم. نُشر عددٌ من إنتاجه الشّعريّ في الصّحفِ المحليّة والعربيّة، وأصدرَ أربعة دواوين شعريّة وكتابًا نقديًّا. مؤمنٌ بالفكرِ الإبداعيّ وأنّ كلّ ذي عاهةٍ جبّار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!