مقالات في العمارة والأدب والحياة

العيد نشيج لا يشيخ

العيد نشيج لا يشيخ

يعيشُ اليَمن –اليوم- بين: جنرالاتِ الحربِ، والميليشيّاتِ، والسّياراتِ المُفخّخةِ، والصّواريخ المُستوردة، والعبوّاتِ النّاسفةِ، والدّيناميتِ، والمَشانِق، والمُسدّساتِ الكاتمةِ للصّوتِ، وقنواتِ المياهِ المَالحةِ، وخزّان النّفطِ المثقوبِ الّذي يوزّعُ الزّيت نقطةً نقطةً، والغاز الّذي يُحيط بالتّوابيتِ، والطّائراتِ الّتي تسبقُ الضّوءَ لتُلقي عليها الورودَ البلاستيكيّة!

ويعيشُ المواطنُ اليمنيُّ: مقهورًا، ومقموعًا، ومطرودًا، ومُطاردًا، وخائفًا، ومُنكَسِرًا، وجائعًا، وعَطشًا، ومتوتّرًا، وعصبيًّا، ومُتوحّشًا، ومُتحفّزًا، ومُغتَصَبًا، ومُخَلخَلًا، ومؤرجَحًا بين صوتِ الطّبلةِ الّتي تزأرُ بحياةٍ مخلوعةٍ والمطرقة الّتي تدُقُّ رأسَهُ عندما يُحاولُ النّظرَ إلى مُستقبلٍ يسبحُ عكس التّيار؛ ليعيشَ بقيّة حياتهِ كفهدٍ مُدَجّنٍ، أو نمرٍ من ورَق!

 عندما يأتي العيد، يأتي بكلِّ صفاقةٍ يُحَدِّثنا عن الأنظمةِ الفاسدةِ الّتي حوّلتهُ إلى قيمةٍ مُغيّبةٍ، وإلى أفعالٍ انحرافيّةٍ، ومُمارساتٍ لا أخلاقيّة. يأتي مُنبطحًا ومَخنوقًا وكأنّ هناك من يُمسك بلعومهُ ليُزهقَ روحه! صار العيدُ شجرةَ ياسمين مُعلّبة، وخزانةَ ثيابٍ قديمةً، وشاذًّا ومجنونًا، وعاريًا إلّا من عباءتهِ السّوداء الّتي تسترُ جِلدَهُ المُزركش بوجوهِ الأطفالِ والأبناءِ والأمّهاتِ والآباءِ والأحبابِ، وبنطلونه الكلاسيكي المصنوع من وبَرِ التَّعاسةِ الّتي أسعلت أنوفنا وقوّضت أعصابنا. يأتي العيد بوجهٍ مُزركَشٍ بالدّماء ليُحدِّد أقدارنا، يأتي مُترنّحًا كغانيةٍ أسكرها طول المُداعبة!

موضوع مُميّز: عيد شهيد

كيفَ يُمكنُ أن يأتي العيد سياسيًّا؟ كيف يُصبحُ حديثهُ حديثًا مُلفّقًا وابتهالاتٍ مسروقةً، ودعَاوى ساذَجة؟ كيفَ يأتي حاملًا على كتفيهِ كلّ هذا التّعسّفِ، وهذا الطّغيانِ، وهذا القبحِ، وهذا القهرِ، وهذا البؤسِ، وهذه العداوة، من دون وجهٍ شرعيٍّ أو ضمير؟!

لا يُمكن أن يحلّ العيد -في كلِّ مرّةٍ- قبل أن يتفاهمَ مع مُحيطهِ، وقبل أن يُدركَ ما نحتاجُ إليهِ، وقبل أن يُرغمنا على بيعِ أنفسِنا في أسواق النّخاسةِ، وقبل أن يتحوّل إلى زائدةٍ دوديّةٍ نودُّ استئصالها فور وصولها. لم يعدِ العيد جزءًا من وجودنا، لم يعد سوى ذاكرةٍ تُعبّرُ عن الموت الّذي يقبعُ في كلِّ ركنٍ من أركانِ تفصيلاتِ حياتنا. هو سارقُ الأرواحِ دون شكّ، هو الغجريُّ الآتي من سلالاتٍ مُنقرضة، هو الواقعُ المشروخ، هو قاعةُ التّرانزيت الّتي تطلبُ منّا الانتظار قليلًا فتمرُّ أعمارنا سريعًا كجنيّةٍ من جنيّات الأساطير.

ماذا نُريدُ من العيد؟ نُريدُ حلًّا لإشكاليّة عنوسة الزّمان الّذي فقدَ إحساسهُ فصارَ منفىً يُضاجعنا، وبرلمانًا هاربًا من التّجنيد، ومؤسّسةً فكريّةً تمتهنُ التّحييد، نُريده قرصَ (أسبرين) بحجم الخوف ليُخفّف أوجاعنا المُـتكدّسة كالدّهنِ تحتَ جلودنا.

للعيد ذاكرة. ذاكرةٌ تحملُ دلالاتٍ خفيّةٍ مُبطّنة، تُطاردُنا لترسُمَ على أجسادِنا خرائطَ معطوبة، تُذكّرنا بثوراتنا المبتورة، وأعيننا المفقوءة، وأطرافنا الممتدة كجسرٍ يربطُ بين هاويتين لم يعبرْهُ أحد! بالمكانِ الّذي غادرهُ الرّفاقُ والأصحابُ والأحبابُ، بالزّمان الّذي أطلقَ عِنانَ مشاعرهِ فسادَ الصّراع. ذاكرةٌ تخرجُ من تحتِ رمادِ الفُقدان؛ لذلك يؤجّجُ العيدُ فينا لعنتهُ، وفي أكثر من مشهدٍ يفسحُ المجال لنُصرّحَ بمواقفنا غير المُعلنة، ونبني أحداثًا اجتماعيّة ما تلبثُ أن تنهار!

ما فائدةُ العيد إذا كان وريثًا شرعيًّا لسيزيف؟ كلّما ارتفعَ سقفُ أحلامنا انهدَم! وكلّما تسلّقنا جبالهُ عادَ الوهمُ شاهرًا لسانهُ إزاءنا! من يُديرهُ؟ ومن يفهمُ تلافيف تضاريسه الّتي تسكننا؟ ومن يُخبرنا عن أكثر الكذب التّاريخي؟ حتّى العابرونَ إلى جنّةِ السّماءِ لم يسلموا من صقيعِ الأفئدةِ في صحاري الموت!

كُنّا ننتظرُ من العيد أن يكونَ تعويضًا عَادلًا عن كلِّ بشاعاتٍ ارتكبها هذا العالمُ الأحمق، بديلًا عن جرائمهِ الّتي يسوقها إلينا في مُحاولةٍ ساذجةٍ لطمأنتنا. بالتّأكيد هو يعلمُ أنّ تحريرنا لا يتمّ بالأدعية والابتهالاتِ وبذل القرابين، فلا يُمكن أن تُغسَل أدمغتنا في أيّامٍ معدوداتٍ لا تكفي لوقف سيل الغزو الفكري، والنّهب الاقتصادي، والاستيلاء على كلّ حاراتِ الوطن، وعليه أن يعلم أنّ لا قوسَ قزح الّذي يحمله سيلوّن أيّامنا، ولا رائحة العشب الطّازج بين أصابعهِ سترشُّ السّعادة فوق رؤوسنا؛ ليظلّ العيد تزويرًا على أجساد رسميّة.

عُدْ يا عيدُ،

فمَا أنتَ إلَّا نشيجٌ لا يَشيخْ!

# العيد نشيج لا يشيخ By محمود قحطان،

محمود قحطان

استشاريٌّ مِعماريٌّ باحثُ دراساتٍ عُليا في التّصميم البيئيّ وكفاءة الطّاقة في المباني. مُدقِّقٌ لُغويٌّ، وشاعرُ فُصحى. أحد الشُّعراء الَّذين شاركوا في موسم مُسابقة أمير الشُّعراء الأوّل في أبوظبي، حيثُ اختير ضمن أفضل مئتي شاعر من ضمن أكثر من (7500) شاعرٍ من جميع أنحاء العالم. نُشِرت عنه رسالة ماجستير، ونُشر عددٌ من إنتاجه الشّعريّ في الصّحفِ المحليّة والعربيّة، وتُرجِم بعضها. أصدرَ أربعة دواوين شعريّة وكتابًا نقديًّا. مؤمنٌ بالفكرِ الإبداعيّ وأنّ كلّ ذي عاهةٍ جبّار!

مقالات ذات صلة

‫8 تعليقات

  1. كلما ارتفع سقف أحلامنا انهدم! و كلما تسلقنا جباله عاد الوهم! ايجاز لخمسة اعوام من اعمارنا. ليتها تسمع الموتي.

  2. الاستاذ الفاضل محمود قحطان . مقالة ادبية رائعة منكم. مؤثرة ليت هؤلاء الذين وضعوا انفسهم سلاطين على هذه العباد وساقوهم الى هذه الحروب المهلكة ان يقرؤوها علها تؤثر فيهم شيئا في وجدانهم . سلمت يداك استاذنا القدير محمود. تقبلو مروري – علي خدو-

      1. سلمت يداك …فعلا كتبت فاتقنت الوصف…عشنا تلك الايام وغمرتنا تلك الاماني والاحلام …ودفنتنا احلامنا في جامعة إب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!