مقالات في العمارة والأدب والحياة

بصرى جسد ينطق!

“بُصرى”… جَ ـسَدٌ يَنْطِقُ!

يقالُ إنّ لمدينة بُصرى فوّهةً قمريةً تأخذُ كلَّ من يمرَّ عبرها، فلا يُمكنه تجاوزها!
إنّها مدينة رُسم فوق جِلدها وعلى جسدها ألوانًا نقيَّةً من التّاريخِ العبقِ بآثارِ الماضي. هل رأيتم مدينةً ينطقُ جسدها؟! فتَّشتُ في صدرِها ورفعتُ عنها غطاءَها كي أكشفَ سرّها. لا يُشبعُني أن أستلقيَ على ساحاتها متدليًّا مثلَ حبَّةِ كرزٍ أو عنقود عنب. دائمًا، كنتُ أهوى مداعبة المُدُنِ الّتي أزورها كي تنتفضَ تحتَ يدي، حينئذٍ أدركُ أنَّني حقَّقتُ غايتي.

إنَّها مدينةٌ تأخذكَ إليها بلا مسافاتٍ ولا أيّ عوازل. تصنعُ من اللّحظةِ عالمًا بذاتهِ وتسكنكَ فيهِ، يصعب على من مرَّ بها استغفالها، يستحيلُ نسيانها، إنَّها مدينةٌ تتركُ لكَ نافذتها مفتوحةً، وتتركُ لك شقًّا في الباب كي تأوي إليها عندما تقتلكَ المدينة بقسوتها.

ما أصعبَ الكلام عن المدنِ التّاريخيّة وما أسهله. لا يمكنني أن أكتبَ عن بُصرى دون أن تهتزَّ أناملي وترتعش؛ ليسكنها اضطرابٌ لذيذٌ ومحبَّبٌ. لا يُمكنني أن أخوضَ فيها دون أن تطمرَ جبهتي كنوزٌ من العطرِ وتحاصرني رائحة التّاريخ الضَّاربِ في أعماقِ وجهها، أو دون أن تمتلئَ جيوبي بالذِّكرياتِ الدّينيّة.

كانت تملكُ زخمًا كافيًا لتضيع في حدودها، أحسستُ أن روحي امتزجت بالتّاريخِ. فجأةً! تقاربنا، تلامسنا، أخذنا العشقُ من النَّظرةِ الأولى. عندما تُشاهد تلك المباني الرّومانيّة والمسيحيّة والإسلاميّة جنبًا إلى جنبٍ ككتلٍ بارزةٍ تشهقُ كسحايةٍ تتسربلُ من عنقِ السَّماءِ تحتَ ظلالِ الضّوءِ، تشعرُ أنَّ عصورًا عظيمةً اختلطت ببعضها وامتزجت، وتدركُ أنَّ تاريخًا طويلًا وعظيمًا قد لفظها.

بُصرى الّتي تقعُ في الجنوبِ السُّوري يُعرِّفونها بأنَّها كلمة تعني: الحصن؛ ما يشير أنَّها بُنيت كقلعةٍ.
هل يدرك أحدكم أنَّ مدينة بُصرى وُجدت قبل الميلاد وتحديدًا في القرنِ الرَّابع عشر، وأنَّ دُولاً كثيرةً مرَّت عليها بدءًا من الدّولة الآكاديّة مرورًا بالدّولةِ الأموريةِ والكنعانيّةِ والآرامية والنّبطيةِ والغسَّانيةِ انتهاءً بالدّولة الإسلاميّة؟

يطيبُ لي، أن أعطيَ نبذةً تاريخيةً مختصرةً جدًّا عن أهمِ المعالم الموجودة بها. تبدأُ المدينة بمدخلها الغربي الشّاهق الّذي يُسمّى (باب الهوى) بعرض عشرةِ أمتارٍ وتقريبًا له الإرتفاع نفسه. ستمر أيضًا (بالسوق الأرضيّة) الّذي يمتدّ بطول مئة وستّة أمتارٍ وبعرضِ خمسةِ أمتار، و(القوس المركزي) ويُسمَّى (باب القنديل)، يتألفُ من ثلاثةِ أقواسٍ أعلاها القوس الأوسط الّذي يبلغ ارتفاعه ثلاثة عشر مترًا. (الحمَّامات) أيضًا، حيث كان في بُصرى ثلاثة حمّامات عامَّة وكبيرة، و(قلعة بُصرى) الّتي يعود تاريخها إلى عصرِ الأنباط انتهاءً بالعصر الأيوبي. ستُقابل (بركة الحاج) الّتي بُنيت في العهد الأيوبي لتأمين السِّقايةِ لقوافل الحجاج، الّتي يبلغ طولها (155) مترًا وعرضها (122) مترًا، وبعمق ثمانية أمتار حيث تنحدرُ باتّجاه الجدار الغربيّ إلى أن يصل عمقها (12) مترًا . ستتعرّفُ إلى أحدِ أروع الأبنيةِ القديمة في سورية من النَّاحية المعماريّة الّذي يُسمّى (القصر) . إضافةً إلى (المعبد النبطي) و(معبد حوريات الماء) الّذي كان يُستخدم منهلًا للماء، و(الكليبة) الّتي تُسمّى الآن سرير بنت الملك. وهناك (السّوق الرّئيسة). إضافةً إلى (الجامع العمري) أوّل مسجد بناه المسلمون في سوريّة أيّام الخليفة عمر بن الخطاب ويُسمّيه السّكان (جامع العروس)، ويُعدّ الجامع أحد المساجد الثلاثة الّتي تحتفظُ بالطّراز الإسلاميّ القديم، فالثَّاني هو المسجد النّبويّ في المدينة والثّالث هو مسجد عمرو بن العاص في مصر. في أثناء تجوالك ستمرّ بأقدم كنائس المدينة (دير الراهب بحيرا) بناء مستطيل طوله (23.3) م وعرضه (13.40) م، وستقابل (الكاتدرائية) وهي أوّل بناء ظهرت عليه قبّة في عالمِ البناءِ المسيحيّ، و(مسجد فاطمة). إضافةً إلى (البركة الشّرقيّة) وهي أقدم خزَّانٍ للمياه قائم حتّى الآن طوله (114)م بعمق (6) أمتار، و(حوض الألعاب المائيّة)، و(جامع الخضر)، و(نبع الجهير)، و(جامع مبرك الناقة) الذي يُعتقد أنَّهُ أقيم في المكان الذي صلَّى فيه الرّسول -عليه الصلاة والسّلام- في شبابه، أو أنَّهُ يُشير إلى المكان الّذي بركت فيه النَّاقة، أو ارتباطه بوصول أوّل نسخةٍ من القرآن الكريم إلى سورية. و (مصلى ملعب)، و(مدرسة أبي الفداء) الّذي يُسمّيه السّكان (جامع الدّباغة)، و(مدفن شهاب الدّين)، و(حمام منجك)، و(جامع المبارك)، و(المعسكر)، و(أسوار مدينة بُصرى)، و(قصر رئيس الاساقفة)، و(الميدان) لسباق الخيل والرّياضة. وأخيرًا (المسرح) وهو المسرح الوحيد الكامل في سائرِ أنحاء العالم ومدرَّجه الّذي حين وصلتُ إليه أحسستُ أنَّني معلق على حبلِ سيرك يتأرجح، دُخت لوهلةٍ، فاجأني المنظر، أنا الّذي أعملُ في مجال الهندسة المعماريّة ودرستُ التّاريخ المعماريّ، شعرتُ أنّني لم أدرس شيئًا فكل ما كان لم يتعدّى صورًا منقوشةً على الورق، وها أنا أقفُ عاريًا من كلّ ما تعلَّمتهُ لأصطدم بواقعٍ بتُّ أتشبَّثُ بهِ!

023 min - بصرى جسد ينطق!
المسرح الروماني من القرن الثاني الميلادي

تلك كانت بإيجازٍ شديدٍ ومقتضب معظم المآثر التّاريخيّة في هذه المدينة العظيمة، ولتعذرني المدينة على بخلي في العرض.

ما زال الحديث عن بُصرى قائمًا، وما زالَ في جعبتها أشياء كثيرة لتخبرهُ عن نفسها، فهي مدينة لا تبخل عليكَ بشيءٍ، فأنتَ كلَّما مشيت خطوةً انبثقت لك من الأرض شيئًا فشيئًا كلّ رموزها وآثارها وأزهرت من حولك وأحاطتكَ كالسّوار .
يُقالُ إنّ للأماكن ذاكرة، فهل يا ترى ستتذكرني بُصرى كما أذكرها…
ربَّما تنطقُ حجارتها يومًا ما لتخبر عنِّي!

في نهاية هذا…
أحبُّ أن أشكر من كل من أسهم بتعريفي إلى هذا المحفل التّاريخي العظيم، بدءًا من:

  • الأستاذ قاسم الخليل (رئيس مجلس مدينة بصرى) ذلك الرّجل الّذي يأخذك بتلابيبِ فكرهِ وثقافتهِ العالية، وتأخذ منهُ عشقه للتّاريخ، تبهركُ ثقته، وتشعرُ معه أنَّهُ يحملُ على عاتقه همَّ النّهوضِ بهذه المدينة والسَّعي حثيثًا على إظهارها بالمظهرِ اللّائق لها الّذي تستحقّه.
  • الأستاذ محمد شاهين (مسؤول العلاقات العامة) الرّجل الوسيم الّذي تكرَّم بمصاحبتنا في أثناء تجوّلنا في المسرح.
  • الأستاذ موسى خبيز (رئيس المكتب السّياحيّ) ذاك الرّجل المرح الجميل.
  • الأستاذ محمود الخليل (مسؤول البيئة) الّذي يُثيرك بوضوحهِ وتلقائيّته.
  • الأستاذ سليمان المقداد، الدَّاعي لي إلى هذا المحفل التّاريخي الذي استضافني في بيته وعرَّفني إلى كلّ كنوزِ هذه المدينة. بالتّأكيد لا يوجد كلام يمكن أن أكتبهُ عنهُ ويوفيه حقَّه من التقدير. أشيرُ إلى أنّ الأستاذ سليمان مهبطٌ ومنارةٌ باسقةٌ لكلِّ من يريد أن يزورَ هذه المدينة.

قبل الرّحيل أحبّ أن أُضيف موقع هذه المدينة لمن يود أن يرى جزءًا من تاريخها ويصافحها www.bosracity.com

# بصرى جسد ينطق! By محمود قحطان،

محمود قحطان

باحثُ دراساتٍ عُليا، وشاعرُ فُصحى، ومُدقّقٌ لغويُّ، ومُهندسٌ مِعماريٌّ استشاريٌّ. أحد الشُّعراء الَّذين شاركوا في موسم مُسابقة أمير الشُّعراء الأوّل في أبوظبي، حيثُ اختير ضمن أفضل مئتي شاعر من ضمن أكثر من (7500) شاعرٍ من جميع أنحاء العالم. نُشر عددٌ من إنتاجه الشّعريّ في الصّحفِ المحليّة والعربيّة، وأصدرَ أربعة دواوين شعريّة وكتابًا نقديًّا. مؤمنٌ بالفكرِ الإبداعيّ وأنّ كلّ ذي عاهةٍ جبّار.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!