سوناتات محمود قحطان-ومضات نثرية
يحملُ كتابُ «سوناتات محمود قحطان -ومضات نثرية» للمُؤلف: محود قحطان جدليّةَ قصائد الشّعر العموديّ وقصائد التّفعيلات الحُرّة فالسّوناتات تقولُ لنا قصائد، وكلمة (نثرية) تُوحي لنا بموسيقى داخليّة أكثر منها خارجيّة، وإذا بعنوان يليهِ تُذكر فيه مُفردة (سوناتات) فحسب، في صفحةٍ مُفردةٍ، وفي الصّفحةِ الّتي تليها (سوناتات) وقد كُتبتْ بخطٍّ كبيرٍ وفي أسفلِها (ومضات) بخطٍّ أصغر ومُختلف، فثلاث صفحات من الكتاب هي للعُنوان الّذي هو ذاته؛ ومع قصره إلّا أنّهُ موسيقيّ بوقعٍ مُغاير.
قُسّم الكتابُ إلى فصل «السّيرينادات Serenades» وفيه فصلان فرعيّان: قيثارةٌ (على لسانِ امرأةٍ)، ومزمار (على لسانِ رجلٍ)؛ وفصل «الهرطقات Heretic». سنُلاحظ أنّ كلّ فصلٍ منهما في اسمهِ دلالةٌ عليهِ وعلى نبضِ كلماته؛ فالفصلُ الأوّلُ غزليُّ ومن ضمنهِ (أوّلُ الدّخولِ… باب) وفيه يقول:
«إلى الَّتي أوهمَتني أنَّا تُقاسمُني رغيفَ الشِّعرِإلى الَّتي أخذَتْ كلَّ شيءٍ
ولم تَترُكْ ليْ سوى الَّلاشيءْ».
نسمعُ هنا عزفَ عاشقٍ يُعاتب من أحبّها ويُسمعها صوتَ وجعهِ، فهي غيّرت عالمهُ وقلبَتهُ، وفي مُفاجأةٍ غريبةٍ تظهرُ لنا صفحةً مُعنونة: «كأنّهُ أنَا…!»، وفيه يُخاطبنا الكاتبُ مُباشرةً ويُكلّمنا عن رحلتهِ مع الشِّعر والنّثر وما بينهما، وعن تعرّفهُ الشِّعرَ الكلاسيكيّ والشِّعر الحرّ، وكيف تنوّعت خبرتهُ بينهما. بعد ذلك جاء دور الدّكتور عبد العزيز المقالح فعرّفنا بكاتبنا أكثر، وهو يُثبتُ -في هذه الصّفحة- موهبةَ صاحبِ الكتابِ ويُثني عليها للغايةِ؛ ومن ثمّ يُدلي لنا بتعريفٍ نقديٍّ وتاريخيّ لكلمة (سوناتات) وأصولها الأوروبيّة وقلّة البوح فيها من ناحيةِ عدد المُفرداتِ.
لنتوجّه الآن إلى فصل «قيثارة» وما به من نغماتٍ راقصةٍ في القلبِ فقالَ الشّاعرُ:
«آهٍلو تُدرِكُ كمْ تبْتَلعنُي خُطاكَ
كي أصلَ إليكَ».
فهي هنا مُشتاقة لمن هامتْ بهِ وأصرّتْ على طلبِ ودّهُ.
وتُكمل كلامها إليهِ:
«ترفَّقْ بمنْ نسَجتهُ خُطاكَ!».
تعني هنا كيف أنّ هواهُ تمكّن من فؤادِها حتّى تكوّنت مشاعرها لهُ كقطعةِ قماشٍ مُفصّلة بحسب إحساسهُ، وتُعبّرُ عن فرحها بهِ وبحُبّهِ لها هكذا:
«فلتعرُجْ بيْ،إلى السَّماءِ الثّامنةْ
أعُانقُ قوسَ قزَحٍ
فأوقنُ أننَّي الآنَ وُلدتْ!».
وتُناجي ربّها عنهُ وعن عشقها لهُ، فتقولُ:
«يا اللهدَعْ أفلْاكَ نبضهِ (تَتَكَثَّف)
فما أجملَ ثوراتهِ المنُدَلِعَةْ!».
عندما نتأمّلُ في هذه الكلمات سنجدُ عُمقَ المحبّةِ لمن دخلَ أَدْعِيتها. نُلاحظُ ميل الشَّاعر إلى وضعِ الكلمات الّتي تهمّهُ أو الّتي ينطِقُها قلبهُ بنبرةٍ غير عاديّةٍ في أقواس مثل كلمة: (تتكثف)، فهو هكذا ينقلُ لنا صوتَ الشّهقاتِ ويُبرزها.
ثمّة رُؤية صُوريّة وحركيّة في الأبياتِ حتّى في طريقةِ كتابةِ مُفرداتها؛ فتقطيعها يجذبُ القارئ، ونطقها على هذهِ الطّريقة فيه صدىً للجمالِ. هذا مثالٌ منَ النّصوصِ:
«قَطْرةٌقَ
طْ
رَ
ةْ
وما زالَ غيثُكَ يُحلّقُ في انزِواءَاتي».
زاد تأثيرُ كلمة (قطرة) وتوكيدها عندما ذُكِرتْ في المرّةِ الثّانية بحروفٍ مُتقطّعةٍ، والرّؤية الجماليّة في البيتِ زادتْ بها، وبوصف مطر في نبضهِ زيّن لها دربها.
في فصل (مزمار) هنالك حزنُ النّاي الشّهير وألحانهِ الشّجيّة الّتي بلّلتِ الكلمات بالأَسى حتّى صارت بهِ نديّة ومع ذلك في اللّحنِ يأسرُ اللّبَ لأناقتهِ وعذوبتهِ.
يقول الشّاعرُ:
«سَأركبُ الغيماتِ لأدُسَّ بينَ عينيهَاقَ مَ ر كِ».
فهو مُتمسّكٌ بأجواءِ السّماءِ وسحبها ورغبتهِ في أن تكونَ هي بدرها؛ وهذا يتطلّب منهُ شجاعة ليُعبُرَ إلى سماءِ قلبها وليُدلي لها عن مكانتهِ عنده، والحزن مُتأصّلٌ في قولهِ:
«ويبقى العِتابُيلُفُّ أوجاعَنَا
بلهفَةٍ
فيزدَادُ زَفيرنا!».
فهنا نجدُ اللّوم وغصّاته والشّوق وتخبّطاته ورغبة كلّ منهما أن يَروي القصّةَ بحسب قناعاته، وهو لا يملّ؛ فحتّى في النّهايةِ يُخبرها بالآتي:
«وشوشة ة ة ة:هلْ يمُكنكِ أنْ تسُوقي عربةَ القمرِ البيضاءِ
كلَّ مسَاءٍ
عبرَ السَّماء؟».
فهو بظرافةِ طفلٍ يُحبّ القصصَ الخرافيّةَ ويرسمها في بالهِ كأميرةٍ ويتمنّاها أميرتهُ هو.
أما فصل (الهرطقات) فهو فكريٌّ بالدّرجةِ الأُولى ويُعالج عدّة محاور، منها: الحُرّيّة والوجود والتّعبير، فهو في أوّلهِ يستهلّ هكذا:
«دَعونا نعترفُ أنّ كسُاحَ الأمَاني العِجافَأتعَبنَا
وأننَّا نحَتاجُ إلى قواميسَ جدِيدةٍ
لنفُكَّ شِفْرَاتِ العبُور
فجَميعُ محُاولاتِنا تنْضَحُ بالفَشَلِ».
فهو يرسمُ لنا صورةً نهضويّة في كلماتٍ يسيرةٍ وجميلةٍ للحصولِ على نتائجَ أروع بدلًا من تكرارِ ما لم ينجحْ مرّات ومرّات مع كلِّ المحاولات، ثمّ يقولُ:
«أنّ الوُرودَ لا يصِحُّ قِطافُهافمذَبحةُ الشَّوكِ مُهلِكة!».
وهو وصفٌ لعدمِ تلويثِ ما هو نقيُّ وعدم المساسِ بما فيه من بهاء؛ فالعاقبةُ قد تكون في تمرّدٍ أكثر من أيّ ما في بالنا من حسبان، ويكلّمنا كالآتي:
«دَعونَا (نُرَخْتِرُ) المشَاعرلنشرعَ في حَرْثِ بعضَ الأملِ،
لأنَّني أعلمُ
أنَّني سَأرتقي السَّماءَ على ظهرِ غيمةٍ
تغسِلُ هذا الواقعَ الدَّنيء».
وهو وضع (نرختر) بين قوسين لأنّها عبارةٌ عن مُستمدٍّ من أصولٍ غير عربيّةٍ؛ ولكنّهُ وضعهُ بطريقةٍ عصريّةٍ ومُبتكرةٍ جَمّلت النّص وجذَبت عيون فضول القراء إلى معرفةِ المزيد، وهو أكمل الصّورة بوصفٍ جمعَ بين الأرضِ والجوّ وفيها تطهير حالم ويكملُ كلامهُ كالآتي:
«الصَّمتُ يمنحُ جنائنَ الأسئلةِبارجاتٍ تَنزَوي في مِحرابِ السَّكينةِ».
فالسّكوتُ الظّاهريّ هو في حقيقتهِ يَطوي حراكًا فكريًّا في داخلهِ، فتكثرُ التّساؤلاتِ الثّريّة ومعها عجائب الاكتشاف. يواصل سردهُ هكذا:
«رُبَماالدَّمعةُ وحدَها،
منْ تسَتطيع أنْ تُعلّقَ الفجَرَ الكاذبَ
على جِدارِ الرِّئةِ
كيْ نشهقَ منْ جَديد!».
فالدموعُ تغسلُ جدرانَ الزّيفِ فتظهرُ الكتاباتُ الفعليّة ليعود الفكرُ ناصع الطّهر.
يُودّعنا الشّاعرُ فيقولُ:
«تحملونَ ليْ نَورسَةً تَصرُخُ في أعمَاقيفَتنْمو بعدئذٍ زَهرَتانْ
واحدةٌ… أزْرَعُها عَلى جبينكم النَّقيّ
والأُخْرَى..
أُهْدِيهَا إلى كلِّ مَنْ مرَّ مِنْ هُنَا».
فهو يُوزّعُ على من لامستهم أشعارهُ، شكرهُ لهم، بعبيره ملموس.
# سوناتات محمود قحطان-ومضات نثرية