العمارة الخضراء

الاستدامة: ضرورة حتمية لتحقيق التوازن بين الحاضر والمستقبل

اقرأ في هذا المقال
  • مفهوم الاستدامة (Sustainability) وتطوّره
  • الاستدامة والتنمية المستدامة: وجهان لعملة واحدة
  • أهمية الاستدامة في مواجهة التّحديات العالمية
  • أهمية الاستدامة في حياتنا اليومية كأفراد وكمجتمعات
  • تطبيق الاستدامة في الحياة اليومية
  • دور التّقنيّة في تعزيز الاسدامة
  • أمثلة لمبادرات استدامة ناجحة حول العالم
  • التحديات والحلول
  • الخاتمة ودعوة للعمل

مُستقبل كوكبنا على المحك، و«الاستدامة» هي طوق النّجاة. تخيّل عالمًا تُشرق فيه الشّمسُ على مدنٍ خضراء، حيث تتنفّس هواءً نقيًّا، وتشرب ماءً عذبًا، وتعيش في وئام معَ الطبيعة. هذا ليس حلمًا بعيد المنال، بل مستقبلٌ يُمكننا تحقيقه بوساطةِ تبنّي «الاستدامة» كأسلوب حياة. يستكشفُ هذا المقال مفهوم الاستدامة، وأهميّتها، وكيفيّة تطبيقها في حياتنا اليومية، مع التّركيز على التّحديّات العالميّة والحلول المُبتكرة.

اقرأ أيضًا: إنترنت الضّوء

مفهوم الاستدامة (Sustainability) وتطوّره

«الاستدامة»، هي فنّ العيش بمسؤولية، فنّ تلبية احتياجاتنا الحاليّة دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتهم. إنّها رحلة نحو توازنٍ دقيق بين الإنسان والبيئة، توازن يحفظ موارد كوكبنا للأجيال القادمة. وهذا التّوازن لا يقتصر على البيئة فحسب، بل يشمل الأبعاد الاقتصاديّة والاجتماعيّة أيضًا، لضمان رفاهيّة المجتمعات حاضرًا ومستقبلًا. بمعنىً آخر، هي الالتزام بممارسات طويلة الأمد تُسهم في تحسين جودة الحياة بوساطة استخدام الموارد بطريقةٍ عادلةٍ ومسؤولة.

تطوّر مفهوم مصطلح «الاستدامة» في ثمانينيّات القرن العشرين للإشارة إلى «الاستدامة البشريّة» على كوكب الأرض. جاء هذا المصطلح استجابةً للاعتراف بأنّ استهلاك الموارد الطّبيعيّة بوتيرةٍ متسارعةٍ يُهدِّدُ قدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها. مهّد هذا إلى ظهور المُصطلح الأكثر شيوعًا للاستدامة والتّنمية المُستدامة. في عام (1987)، عرّفت مفوضية الأمم المتّحدة للبيئةِ والتّنمية الاستدامة مصطلح «التنمية المستدامة» (Sustainable Development) بأنّه:

«التّنمية الّتي تفي باحتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها الخاصّة». مفوضيّة الأمم المُتّحدة للبيئةِ والتّنمية المُستدامة. 1987.

الاستدامة والتنمية المستدامة: وجهان لعملة واحدة

كثيراً ما يُستخدم مصطلحا «الاستدامة» و«التّنمية المستدامة» بالتبادل، ولكن ثمّة فرقٌ دقيق بينهما. «الاستدامة» هي المفهوم الأوسع، وهي الهدف النّهائي الّذي نسعى لتحقيقه، بمعنى الحفاظ على الموارد الطّبيعيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة للأجيال القادمة وتحقيق التّوازن طويل الأمد. أمّا «التّنمية المُستدامة» فهي الطريق أو (الاستراتيجية) التي نتبعها للوصول إلى هذا الهدف. بمعنى آخر، «الاستدامة» هي الحالة الّتي نريد الوصول إليها؛ في حين «التنمية المستدامة» هي العمليّة الّتي ننتهجها لتحقيقها.

الاستدامة التّنمية المُستدامة
هي مصطلح واسع يصف كيفيّة الحفاظ على الموارد الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية للأجيال القادمة. هي العملية التي تهدف إلى تلبية احتياجات الحاضر دون المساس باحتياجات الأجيال المقبلة.
تَرمي إلى تحقيق توازن طويل الأمد في الموارد. تركز على أسلوب أو (استراتيجية) الوصول إلى هذا التوازن.
تشمل الأبعاد البيئيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة. تركز على تحقيق التّنمية مع مراعاة مبدأ الاستدامة.

أهمية الاستدامة في مواجهة التّحديات العالمية

تكتسب «الاستدامة» أهمية متزايدة في ظلّ التّحديّات العالميّة الرّاهنة:

  1. تغيّر المناخ: تُسهم ممارسات الاستدامة في الحدّ من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. وَفقًا للهيئة الحكوميّة الدّوليّة المعنيّة بتغّير المناخ، يُمكن أن يُؤدّي تبنّي تدابير «الاستدامة» إلى خفض الانبعاثات بنسبة تصل إلى (70%) بحلول عام (2050).
  2. استنزاف الموارد: تُعزّز «الاستدامة» الاستخدام الرّشيد للموارد الطّبيعيّة. على سبيل المثال، يُمكن أن يُؤدّي تطبيق مبادئ الاقتصاد الدّائري إلى توفير (4.5) تريليون دولار بحلول عام (2030).
  3. التلوّث البيئيّ: تسُاعد الممارسات المستدامة في الحدّ من التلوّث. فمثلًا، أدّى حظر الأكياس البلاستيكيّة في كينيا إلى انخفاض التّلوّث البلاستيكيّ بنسبة (80%) في المناطق الحضريّة.

أهمية الاستدامَة في حياتنا اليومية كأفراد وكمجتمعات

تخيّل عالمًا تُعاني فيه الأجيال القادمة من شُحّ المياه، وتلوّث الهواء، ونقص الغذاء. هذا هو المُستقبل الّذي نريد تجنّبه، وهذا ما تدفعنا «الاستدامة» إلى تحقيقه. بوساطةِ تبنّي مُمارسات مستدامة، نُسهم في:

  1. المحافظة على مصادر الطّاقة وتحسين كفاءتها: تعني «كفاءة الطّاقة» (Energy Efficiency) استخدام أقل قدر ممكن من الطاقة لتحقيق النتائج المطلوبة. تشير الدّراسات إلى أن تبنّي مُمارسات الاستدامة يُمكن أن يُقلّل استهلاك الطاقة بنسبة تصل إلى (30%)؛ ما يُؤدّي إلى خفض النفقات على المدى الطّويل والحد من الأثر البيئي.

ممارسات فعّالة لتحسين كفاءة الطّاقة:

  1. استخدام الإضاءة الموفرة للطاقة: مثل مصابيح LED.
  2. الاعتماد على مصادر الطّاقة المُتجدّدة: كالطّاقة الشّمسيّة وطاقة الرّياح.
  3. اختيار الأجهزة الكهربائيّة ذات الكفاءة العالية: مثل: الثّلّاجات والمكيّفات المُصنّفة كموفّرة للطّاقة.
  4. تحسين العزل الحراريّ: عزل الأسطح والجدران عزلًا جيّدًا لتقليل استهلاك الطّاقة في التّدفئة والتّبريد.

تبنّي هذه الممارسات لا يُقلّل من النّفقات الماليّة فحسب؛ بل يُسهم في الحفاظ على البيئة أيضًا من طريقِ تقليل الاعتماد على مصادر الطّاقة التّقليديّة وخفض انبعاثات الكربون.

  1. إيجاد بيئة صحيّة للجميع: تسهم «الاستدَامة» في تحسين: جودة المياه والهواء، وتقليل التلوث ومدافن النّفايات، وزيادة الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة. هذه الممارسات تساعد على إبداع بيئةٍ أكثر صحّة وسلامة للجميع.
  2. تقليل البصمة الكربونيّة (Carbon Footprint): البصمة الكربونيّة هي كميّة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الّتي يُنتجها الفرد أو النّشاط. بوساطة تقليل استخدام الوقود الأحفوري والتّحوّل إلى مصادر الطّاقة المُتجدّدة، مثل: الطّاقة الشّمسيّة وطاقة الرّياح، يُمكننا تقليل «البصمة الكربونيّة» إلى نسبةٍ تصلُ إلى (50%). على سبيل المثال، استخدام السّيارات الكهربائيّة أو تقليل الاعتماد على وسائل النّقل الخاصّة باستخدام وسائل النّقل العامّة، والمشي يُسهم في خفض انبعاثات الكربون. هذه الخطوات تُقلّل من الأثر البيئي للفرد، وتُساعد على مُواجهة تغيّر المناخ.
  3. ضمان مستقبل مشرق للأجيال القادمة: يُعَدّ الالتزام بممارسات «الاستدامة» ضمانة لاستمرار توفّر الموارد الطّبيعيّة للأجيال المقبلة وتجنّب استنزافها. فالحفاظ على هذه الموارد يعني أنّ الأجيال القادمة ستتمكّن من تلبية احتياجاتها دون مُواجهة نقص في الموارد الأساسيّة.

تطبيق الاستدامة في الحياة اليومية

«الاستدامة» ليست مجرد شعارٍ نرفعه، بل هي أسلوب حياة يُمكننا تطبيقه يوميًّا باتّباع خطوات يسيرةٍ، يُمكن لكلّ فردٍ الإسهام في تحقيق «الاستدامة» من طريق:

  • ترشيد استهلاك المياه والطّاقة: الحفاظ على المياه باستخدام تقنيات توفير المياه في المنازل والمجتمعات. على سبيل المثال: تركيب رؤوس دش موفرة للمياه، وإصلاح التّسريبات، واستخدام مصابيح موفرة للطّاقة، وإطفاء الأجهزة الكهربائيّة عند عدم استخدامها؛ يمكن أن يُقلّل استهلاك المياه بنسبة تصل إلى (60%).
  • إعادة التّدوير وتقليل النّفايات: إعادة استخدام المواد لتقليل النّفايات والضّغط على الموارد الطّبيعيّة. يُمكن إعادة تدوير أو تسميد نحو (80%) من النّفايات المنزليّة.
  • استخدام الطّاقة المُتجدّدة: مثل: الطّاقة الشّمسيّة وطاقة الرّياح. على سبيل المثال: تركيب الألواح الشّمسيّة على أسطح المنازل يُوفّر الطّاقة ويُقلّل الاعتماد على الوقود الأحفوريّ.
  • تقليل استهلاك البلاستيك: استخدام بدائل قابلة للتّحلّل يُقلّل من التّلوّث البيئيّ. على سبيل المثال: استخدام أكياس القماش القابلة لإعادة الاستخدام بدلًا من الأكياس البلاستيكيّة.
  • اتّباع نظام غذائي صحيّ ومُستدام: تناول المزيد من الفواكه والخضروات، وتقليل استهلاك اللّحوم، وشراء المنتجات المحليّة والموسميّة يُمكن أن يُقلّل البصمة البيئيّة للغذاء بنسبة (73%).
  • استخدام وسائل النّقل المُستدامة: مثل: المشي، وركوب الدّراجات، واستخدام وسائل النّقل العام، يُمكن أن يُقلّل البصمة الكربونيّة الفرديّة بنسبةٍ تصل إلى (50%).
  • زراعة الأشجار والنباتات: لزيادة المساحات الخضراء وتنقية الهواء وتحسين البيئة المحيطة.

دور التّقنيّة في تعزيز الاسدامة

تؤدّي التّقنيّة دورًا حاسمًا في دعم مسيرة «الاستدامة»؛ بوساطةِ تطوير حلول مبتكرة في مجالات الطّاقة المُتجدّدة، وإدارة النّفايات، والزّراعة الذّكيّة، وغيرها. فعلى سبيل المثال:

  • الذّكاء الصّناعيّ: يُساعد في تحسين كفاءة استخدام الطّاقة في المباني والمصانع؛ ما يُمكن أن يُوفّر ما يصل إلى (40%) من استهلاك الطّاقة.
  • إنترنت الأشياء: يُمكّن إدارة أفضل للموارد من طريق جمع البيانات وتحليلها في الوقتِ الفعليّ؛ ما يُقلّل الهدر بنسبةٍ تصلُ إلى (30%).
  • تقنيّات الطّاقة المُتجدّدة: تطوير تقنيّات أكثر كفاءة للطّاقة الشّمسيّة وطاقة الرّياح. مثلًا، زادت كفاءة الألواح الشّمسيّة من (15%) إلى أكثر من (22%) في العقد الماضي.

أمثلة لمبادرات استدامة ناجحة حول العالم

  1. مدينة كوبنهاغن: تهدف إلى أن تُصبح محايدة كربونيًّا بحلول عام (2025)، وقد نجحت في خفض انبعاثاتها بنسبة (80%) منذ عام (2009).
  2. كوستاريكا: تعمل على الوصول إلى صافي انبعاثات صفريّة بحلول عام (2050)، وتنتج بالفعل (99%) من كهربائها من مصادر مُتجدّدة.
  3. سنغافورة: نجحت في إعادة تدوير (52%) من نفاياتها الصّلبة وتحويل (17%) من مساحتها إلى مساحاتٍ خضراء.

التّحديّات والحلول

لا شكّ في أنّ رحلة «الاستِدامَة» تُواجه بعض التّحديّات، مثل:

  1. النّفقات الأوليّة المُرتفعة: يُمكن التّغلّب عليها من طريق الدّعم الحكوميّ والتّمويل الأخضر، والتّشريعات المُحفّزة؛ لتشجيع الاستثمار في التّقنيّات المستدامة.
  2. مقاومة التّغيير: التّوعية والتّعليم يساعدان على تغيير السّلوكيّات.
  3. نقص الوعي: تُسهم حملات التّوعية والبرامج التّعليميّة في زيادة الوعي بأهميّة الاستدامة.

الخاتمة ودعوة للعمل

إنّ «الاستِدامَة» ليست مجرد خيار؛ بل ضرورة حتميّة لضمان مُستقبل مشرق للأجيال القادمة. بوساطة تبنّي مُمارسات مُستدامة في حياتنا اليوميّة، سواء كأفراد أو مجتمعات، يُمكننا تحقيق توازن بين الاحتياجات الحاليّة والقُدرة على المُحافظة على الموارد للمُستقبل.

دعوة للعمل: لنبدأ اليوم باتّخاذ خطواتٍ صغيرةٍ نحو «الاستِدَامة». سواء كان ذلك من طريق ترشيد استهلاك الطّاقة، أو التّقليل من النّفايات، أو اختيار منتجات صديقة للبيئة. كلّ عملٍ، مهما بدا صغيرًا، له تأثير إيجابيٍّ في كوكبنا ومُستقبلنا المُشترك.

# الاستدامة: ضرورة حتمية لتحقيق التوازن بين الحاضر والمستقبل By محمود قحطان،


مصادر:

Global warming of 1.5 oC —. (n.d.). Global Warming of 1.5 oC. https://www.ipcc.ch/sr15/

The Circular Economy Could Unlock $4.5 trillion of Economic Growth, Finds New Book by Accenture. (n.d.). https://newsroom.accenture.com/news/2015/the-circular-economy-could-unlock-4-5-trillion-of-economic-growth-finds-new-book-by-accenture

Irungu, S. (n.d.). National Environment Management Authority (NEMA) – 2 years on: Say no to plastic bags. https://www.nema.go.ke/index.php?Itemid=451&catid=2&id=296&option=com_content&view=article

Prioritizing sustainable consumption: the key to a resilient future | illuminem. (2023, May 26). https://illuminem.com/illuminemvoices/prioritizing-sustainable-consumption-the-key-to-a-resilient-future

Renewable energy sources cut carbon emissions, efficiently increase electricity output worldwide, delegates say in second Committee | meetings coverage and press releases. (2018, October 16). https://press.un.org/en/2018/gaef3501.doc.htm

Water Conservation Statistics Statistics: Market Data Report 2024. (n.d.). https://gitnux.org/water-conservation-statistics/

Petter, O. (2020, September 24). Veganism is “single biggest way” to reduce our environmental impact on planet, study finds | The Independent. The Independent. https://www.independent.co.uk/life-style/health-and-families/veganism-environmental-impact-planet-reduced-plant-based-diet-humans-study-a8378631.html

Support. (2024, March 7). The influence of IoT in waste management and recycling. Recycling International. https://recyclinginternational.com/business/business-news/the-influence-of-iot-in-waste-management-and-recycling/53958/

Copenhagen – Europe’s greenest capital city. (n.d.). Planète Énergies. https://www.planete-energies.com/en/media/article/copenhagen-europes-greenest-capital-city

Net zero targets. (n.d.). https://climateactiontracker.org/countries/costa-rica/net-zero-targets/

Ganesan, N. (2024, June 21). Singapore’s recycling rate falls to 52% in 2023, decline from 10 years ago. CNA. https://www.channelnewsasia.com/singapore/recycling-rate-domestic-waste-statistics-2023-nea-4418776

 

محمود قحطان

استشاريٌّ مِعماريٌّ باحثُ دراساتٍ عُليا في التّصميم البيئيّ وكفاءة الطّاقة في المباني. مُدقِّقٌ لُغويٌّ، وشاعرُ فُصحى. أحد الشُّعراء الَّذين شاركوا في موسم مُسابقة أمير الشُّعراء الأوّل في أبوظبي، حيثُ اختير ضمن أفضل مئتي شاعر من ضمن أكثر من (7500) شاعرٍ من جميع أنحاء العالم. نُشِرت عنه رسالة ماجستير، ونُشر عددٌ من إنتاجه الشّعريّ في الصّحفِ المحليّة والعربيّة، وتُرجِم بعضها. أصدرَ أربعة دواوين شعريّة وكتابًا نقديًّا. مؤمنٌ بالفكرِ الإبداعيّ وأنّ كلّ ذي عاهةٍ جبّار!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!