الشمعة التاسعة
الشمعة التاسعة
أنا..
أُشبهُ أُغنيةَ الحُزنِ الذي تسيلُ لهُ ذرَّاتُ الوَجَعِ الخَانقْ
وَرِثْتُ رُؤىً غيرُ مرئيةْ،
وعينينِ سائلتينِ،
يلفُّهمَا الألمُ قبلَ أنْ يأتيني الخبرُ من شفتـيَّ الباردتينْ
ولأنَّ القلق القاسي الّذي حُفِرَ عميقًا في خلاياي؛
يحرقُني
يئنُّ بدَاخِلي
يطفُو كمَجرَّةٍ تصرخُ في حُنْجُرَتي؛
سأُطفئُ معِي
الشمعة التاسعة!
اليومُ هو عيد ميلادي التّاسع. بوجهٍ آخر هي: اللّعنة التّاسعة.
نعم، هي لعنةٌ ولا شك.
عندما لا يُمكنك الذّهاب إلى الحمّام لقضاء حاجتك أو تنظيف نفسك؛ فأنتَ: ملعون!
عندما لا يُمكنك الوقوف على قدميك لتقيس الفارق الطّولي بينك وبينَ طفلك؛ فأنتَ: ملعون!
عندما لا تستطيع أن تُمارسَ حقّك الجنسيّ وأن تُداعبَ قطّتك البشريّة ويبقى عضوك الذّكري كسمكةٍ مُتجمّدةٍ بين فخذيك، فأنتَ ملعونٌ!
عندما ينتهي زمنُ الإنجاب الأخضر، ويُستبدلُ بزمنِ الصّحراء الأصفر والأرض البور، فأنت ملعون.
ستظلُّ ملعونًا إلى الأبد، لا شفاءَ لك ولا موت.
أنت –الآن- لم تعدْ مركز العالم كما كُنت، هذا ليسَ جيّدًا أو سيّئًا، هو على حاله فحسب. ليس هناك سوء أخلاقٍ أو عدم احترام أو تقدير لذاتك، إنّما ستظلّ هكذا حتّى يحين وقتك، وعندما تَحين النّهاية؛ تُصبحُ شبحًا لشخصٍ آخر ظننتَ يومًا أنّهُ يُشبهك!
الغضبُ.
كلّ شيءٍ صار يُغضبني: اللهُ والنّاس والأشياء.
وكلّما فكّرتُ كيف خانتني الحياةُ زاد غضبي، وزالَ أكسجين الغرفة.
بعد الحادث لم أستطع النّوم مُجدَّدًا، كلّما حاولتُ النّوم أزعجني الألم الّذي يَسري في جسمي؛ لذلك أصبحتُ مُستيقظًا تمامًا، جرّبتُ كلّ شيء يُمكنه أن يُساعدني على النّوم: مسكّنات الألم، ومُكافح الاكتئاب، وحبوب التّنويم، حتّى التّنويم المِغناطيسي أخفقَ معي! يبدو أنّه مع الوقت زادت مَناعتي وصرتُ محصّنًا من النّوم.
لم أرد شيئًا غير أن ينقضي جرحي، وأن تعدو آلامي بعيدًا عن جسدي الضّعيف؛ ولكن وعوضًا عن مرورِ الوقت سريعًا أُجبِرتُ أنْ أشهدَ على مرورِ كلِّ ثانيةٍ في السّاعة، وأصبحَ بين يديَّ وقت طويل أكثر ممّا أردت، وقتٌ أكثر كي أفكّر بشأن حياتي المُقبلة، وصار صعودي درجَ الزمن مسألة حتميّة.
هذه هي الحياةُ، لا شيء تُعطيه لك سوى مزيدٍ من الوقاحةِ، ماذا لو جفّ حلقها قليلًا ليُمكنني بلع ريقي لأتمكّن من التّشبّث بساعاتِ شروق الشّمس الأخيرة قبل أن تُغادرني وتتركني وحيدًا إزاء ليلةٍ كئيبةٍ ومؤرقةٍ لا ظلّ فيها ولا ضوء؟
لا شيء سوى غرفةٍ يعبثُ فيها الوقتُ. يتزاحمُ عقربا السّاعةِ فيها ويتلاقحان طويلًا جدًّا بصريرٍ مُزعجٍ يمنُعك النّوم ويُحيلك إلى معتوه!
نعم، الوقت. ذلك الكائنُ الهُلاميُّ، اللّزجُ، المطّاطيُّ، الّذي يفصلني عنِ الحياةِ ويجعلني في منطقةٍ ضبابيّةٍ ما بين الحقيقةِ والخيال، ما بين الماضي والحاضر، مزروعٌ في التّفاصيل الدّقيقة. الوقت الّذي يُقحِمُ نفسه ويتكدّس كوماتٍ كوماتٍ ويبدو معه كلّ شيءٍ كدائرةٍ لا نهاية لها!
هل يُمكن تغيير الزمن والتّلاعب به؟ هل يُمكن تسريعه أو تبطيئه أو تجميده؟ لماذا يسيرُ دومًا إلى الأمام؟ هل لو أُتيحت لي القدرة على العودةِ إلى الماضي لأغيّر قدَري، أسأفعلها؟ الحقيقةُ أنّني لا أعرف إذا كنتُ أودّ ذلك، فذكرياتنا هي ماضينا، وحاضرنا هو حقيقتنا الأكيدة، ومُستقبلنا هو آمالنا المؤجّلة. نحنُ نحتاجُ إلى إيقاف الذّكريات الأليمة من التّدفق أو في الأقل التّلاعب بهذه الذّكريات، ونحتاجُ إلى ضبط وجودنا ليلائم مُستقبلنا المُقبل. ففي الوقتِ الّذي ينامُ فيه الأصحّاء أظلُّ أنا مشغولًا في ابتكارِ طريقةٍ يُمكنني فيها استغلال هذا الوقت.
في النّهايةِ، يرمي الزّمنُ مرساته ويبدو أنّه لا يُريد أن يتزحزح، فنعلقُ في دوّامته.
الواضح أنّني أحتاجُ إلى شيءٍ استغلُّ به وقتي. الحقيقةُ أنّ لا وقتَ لدي!
أوووف… إنّني أُطفئُ الشمعة التاسعة!
#الشمعة التاسعة By محمود قحطان،
يُتبع،