الغريب ألبير كامو
الغريب ألبير كامو
الغريب ألبير كامو أو ميرسو Meursault شخصٌ عادي باعتبار نظرته لنفسهِ؛ ولكنّه ظلّ يُثير حوله استغرابًا بسبب ردود أفعالهِ الّتي لا تُناسب الموقف، فحين تُوفّيت والدته الّتي كان قد نقلها إلى دار المسنّين لم يبدُ عليهِ أيّ تأثّر! لم يطلبْ رُؤيتها قبلَ دفنها، وظلّ يفعلُ تفاصيل يومهِ العاديّة، بل إنّه خرج مع صديقتهِ لمشاهدة فيلمٍ كوميديٍّ!
من يسكنونَ جواره أشخاصٌ يستخدمونَ العنفَ في التّعاملِ مع من حولهم، فأحدُ جيرانهِ كان يضربُ كلبه المريض الّذي أصبحَ رفيق سكنهِ الوحيد بعد وفاةِ زوجته، والآخر كان يعملُ قوّادًا ويستخدمُ الضّربَ العنيفَ مع النّساء اللّواتي يتقرّبُ إليهنّ؛ ومَعَ أنّه لم يُشاركْ أحدًا منهم فيما يفعلهُ؛ إلّا أنّهُ كانَ يُوافقهم على ما يفعلونَه حين يسألونَه عن رأيهِ، حتّى وإن لم يقبَله، ويجيبهم ببرودٍ أنّ ما حدثَ لا يهم.
أحبّ فتاةً (مَاري)، وحين سألته إنْ كانَ يُحبّها أجاب بـ(لا)! ولكنّه أجاب بـ(نعم) يُمكننا ذلك عندما سألتهُ إنّ كان سيتزوّجها! المرّة الوحيدة الّتي تفاعلَ فيها بمقدارٍ يتناسبُ مع الموقفِ كانَ حينَ خرجَ في رحلةٍ بحريّةٍ مع جارهِ القوّاد (رِيمون) ومجموعةٍ من أصدقائهم، فقدْ واجَه صديقه شابٌّ عربيٌّ هو أخ الفتاةِ الّتي كانَ يضرِبها، وعندما رفع صديقهُ ريمون المسدّس ليُطلق على العربيّ حاولَ تهدئته واقترح عليه عددًا من الحلولِ كان آخرها أن يستعيضَ عن قتلهِ بمُصارعته ويعطي مسدّسه له حتى لا يفعلُ عملًا طائشًا يندمُ عليه فيما بعد؛ في حين التزم له بأنّه إذا ما أخرجَ العربيّ سكّينه الّتي يضعها في جيبه فإنّه سيطلقُ الرّصاصَ عليه.
كانت نصيحةٌ سديدةٌ حينئذٍ، فقد انتهى العراكُ دون أن تُطلَق الرّصاصاتُ الّتي لم يكن في نيّتهِ استخدامها، وعادوا إلى الاستراحةِ؛ ولأنّه لا يُحبّ الحديث الكثير والتّوضيح آثرَ أن يبتعدَ عن المتسائلينَ حول العراكِ وأسبابهِ، ويعود إلى الشّاطئ للاسترخاء خلف إحدى الصّخور، ليجد الشّاب العربيّ جالسًا في أسوأِ مُصادفةٍ في حياته. تلك المُصادفة الّتي ترافقت مع مُصادفةٍ أخرى وهي حمله مسدس صديقه الّذي كان قد أخذهُ منه ليمنعه من ارتكابِ جريمة. كانتِ الشّمسُ قويّةً على عينيهِ وتُفقدهُ القدرة على مُتابعة تحرّك العربيّ بدقّة، وبسبب حرارة الشّمس الشّديدة، والعرق الّذي غطّى جفونه، والملح الّذي ذاب في عينيهِ، والبحرُ الّذي يُطلق هواءً ساخنًا، والصّداع الّذي تدقُّ شرايينه تحتَ الجلد؛ أطلقَ من مُسدّسه رصاصةً، تبعتها بعد حين أربع رصاصاتٍ أخرى؛ ليكون السّؤال الّذي لم يجدْ هو نفسه ولا مُحقّقوه إجابته: لماذا توقّف هنيهةً بين إطلاق الرّصاصة الأولى والرّصاصات الّتي تلتها؟
في التّحقيقاتِ وُضِعت في الحسبان جميع مواقف حياتهِ السّابقة التّي اتّسمت بالغرابةِ بحسب شهادة الشّهود، ووُجدت رسالةٌ بخطِّ يدهِ كان قد كتبها للفتاةِ العربيّة يستعطفُها بها ويرجوها العودة إلى صديقهِ (ريمون)، رسالة كتبها له بناءً على طلبه؛ ولكنّها عُدَّت الآن مشاركة منه في أعمالِ صديقهِ القوّاد مع النّساء. إضافةً إلى حيازتهِ سلاحًا معبّأً بالطّلقات؛ ما جعل الجريمة تُثبتُ في حقّهِ مع سبقِ الإصرار.
لم يُبدِ أيّ تجاوبٍ معقولٍ مع المحقّقِ أو المحامي الّذي وُكِّلَ له، فقد عبّر بصراحةٍ عن أنّه غير نادمٍ على ما فعَل، وعبّر بصراحةٍ –أيضًا- عن عدمِ إيمانهِ بالله في أيّ دينٍ من أديانهِ، وكانَ يُجيب عن سُؤال: هل حَزِنَ على وفاةِ والدته؟ وإن كانَ يُحبّها؟ بإجابةٍ واحدةٍ: «نعم، مثل كلّ النّاس»، وحينَ حصلَ على فرصةٍ في المحكمةِ ليتحدّث، فقد أتبعَ حديثهُ عن أنّه لم يكُن يحملُ أيّ نيّةٍ للقتلِ، وبتوضيحِ أنّ الشّمسَ هي السّبب الّذي دفعهُ إلى ارتكابِ الجريمة! لتَملأ القاعةَ موجةٌ من الضّحكِ في مكانٍ لم يضحكِ النّاسُ فيه قبلًا.
بعدَ الحكمِ عليه بالإعدامِ، انتقلَ إلى زنزانتهِ ليبدأ توًّا في الشّعور بالخوفِ والقلقِ بعد أنْ قضى الأيّام الأُولى من سجنهِ هادئًا يُؤمنُ أنّ أيّ شيءٍ مهما كان يُمكن للإنسان أن يتعوّدَ عليه. حاولَ الكاهنُ مرارًا زيارته ليُقرّبه إلى اللهِ قبلَ وفاتهِ؛ ولكنّهُ كان يرفضُ في كلِّ مرّةٍ، وفي المرّةِ الوحيدةِ الّتي قابلهُ فيها صرَخَ في وجههِ وانقضَّ عليهِ حتّى تدخّلَ الحرّاسُ لتخليصهِ من يدهِ؛ ليُصبحَ الشّيء الوحيد الّذي يفصلهُ عن الإعدامِ صوتُ الأقدامِ الّتي ينتظرُها، وأمنيتهُ أنْ يحضرَ إعدامَه كثيرٌ من النّاس؛ ليشعرَ في آخرِ لحظاتِ حياتهِ بالتوحّد مع العالم.
التّحليل:
تنقسمُ الغريب ألبير كامو إلى جزأين، يحوي الجزء الأوّل ستّة فصول، ويحوي الجزء الثّاني خمسة فصول. يُمكن تلخيص أحداث الفصول بموت الأم، ثمّ علاقة عاطفيّة مع زميلة عمل سابقة، ثمّ علاقته بجارَيه، ثمّ قتل رجل عربي، ثمّ المُحاكمة.
تُعَدُّ الرّواية إحدى أشهر الرّوايات العالميّة الّتي تبنّت المذهب العبثي، أو الفلسفة الوجودّيّة الّتي تُركّز على الإنسان و «تؤكّد أنّ الوجودَ سابقٌ على الماهيّة». أي أنّ الإنسان يأتي إلى هذا العالم صفحةً بيضاء، وبعقله وتجاربه الشّخصيّة يبدأ بتكوين ما هيّته. ألبير كامو نفسه عندما يصفه الآخرون يقولون الفيلسوف الوجودي؛ مع أنّه يُنكر ذلك.
استُهلّت الرّواية بوفاةِ أمّ ميرسو وبمدخَلٍ عُدّ من أفضل الافتتاحيات في القرن العشرين حيثُ يقول:
«ماتت أمّي اليوم، وربّما أمس، لا أدري!”.
هذا الاستهلال الّذي يُلخّص فكرة الرّواية النّفسيّة: اللّامبالاة، والتّمرّد، والاستهزاء بالحياة والوجود الإنساني. سوف ينقل ميرسو طوال الرّواية ردّة أفعاله الباردة ليكشف عن وجههِ الحقيقي العفويّ الّذي يخلو من المُجاملات والتّظاهر بعكس ما يشعر به. هو الّذي يُدخّنُ ويشربُ القهوةَ إزاءَ جثمان والدته من دون أن يشعرَ بالخجلِ أو الحزن، ومن دون أن يذرفَ دمعةً واحدةً عليها. هو الغريب الّذي لا يشعر بشيءٍ ولا يرى فرقًا بين الحياةِ والموت. هو الّذي لا يرى في حبيبته ماري سوى جسدٍ فحسب:
«وفي المساءِ، حضرتْ ماري عندي وسألتني عمّا إذا كنتُ أريدُ أن أتزوّجها، فقلتُ لها: إنّ هذا شيء لا يهمّ وأنّنا نستطيع أن نتزوّج إذا شاءت، وأرادت أن تعرف ما إذا كنتُ أحبّها، فقلتُ لها الإجابة نفسها الّتي سبق أن قلتها لها ذات مرّة، وأنّ هذا شيء لا يهمّ وإنّني على أيّةِ حال لا أحبّها، فقالت لي: ولماذا تتزوّجني إذن؟ فقلتُ لها: إنّ هذا شيء ليس له أيّة أهميّة وأنّها إذا أرادت فإنّنا نستطيع أن نتزوّج ومن جهةٍ أُخرى فهي الّتي طلبت ذلك وأنّني وافقتُ على تنفيذِ رغبتها إرضاءً لها».
هذا الغريب ألبير كامو الّذي لا يعتدّ بهذه الحياة ويستهتر بها يقولُ عن نفسه:
«حاجاتي الجسمانيّة تُعرقل كثيرًا مشاعري».
لذلك لم يبكِ والدته لأنّ السّفر أتعبه، ويُمكنه أن يتزوّج ماري لأنّ هذا لا يهم، وقتلَ العربيّ لأنّ الشّمس أزعجتهُ، تلك الجريمة الّتي ارتكبها من دون تخطيطٍ سابق ومن دون مسوّغات حقيقيّة تشرح سبب القتل، ومن دون سببٍ عقلاني أو منطقيّ غير أنّ الشّمس هي السّبب! وأنّ خنجرَ العربي لمعَ تحتَ هذه أشعّة هذه الشّمس فاستثارَه الأمر.
بسبب تناقضاته النّفسيّة وغرابة سلوكه وتصرّفاته أدانهُ المُجتمع، ليسَ بسببِ جريمة القتل وحدَها إنّما بسبب غرابته. صارَ مُتّهمًا لعدم حزنه وبكائه على أمّه، لرؤيته العبثيّة تجاه الحياة؛ لهذا عدّته المحكمة خطرًا على المُجتمع يجب إعدامه.
«أراد ألبير كامو أن يُسلّط الضّوء على المجرمِ الحقيقيّ من وجهةِ نظره (المجتمع). لقد جعلَ المجتمع من ميرسو شخصًا لا مباليًا، ثمّ عادَ مرّةً أُخرى ليُحاكمه على الجريمةِ الّتي ارتكبها بعد أن سلبهُ ارادته الحقيقيّة».
الغريب ألبير كامو هو أحد الغرباء الّذين يملؤون هذا العالم ويشعرون بعدم الانتماء لمُجتمعهم ووطنهم، ويعيشون في انعزالٍ نفسيٍّ وأخلاقيٍّ سياسيٍّ ودينيٍّ. يعتزلون العالمَ لأنّه لا ينتمونَ لهُ.
يقول كامي في نهاية الرّواية:
«ما الموت؟ ما الحياة؟ حياتي كانَ من الممكن أن تُصبحَ حياةً أُخرى، وماري ستبحثُ عن عشيقٍ آخر. هل أحتاجُ إلى تسويغ ما أفعل؟ لا فائدة؛ فأنا لو فعلتُ سأسوّغ هذا للبشر، وأنا لا أريدُ البشرَ الآن. اتّهموني بالقتل مع سبق الإصرار والترصّد لأنّي لم أبكِ أمّي! ما الّذي يهم؟ ما فائدة الحب؟ ما فائدة الصّداقة؟ ماذا لو مت؟ هل سآتي للدّنيا من جديدٍ كأبلهٍ آخر؟ أم أن خبراتي ستظلّ قائمةً ليستفيدَ بها جديدي؟ على أيّ حال، أنا عشتُ حياةً سعيدةً رائعة؛ ولكي ينتهي كلّ شيء على ما يُرام، ولكيلا أشعر بكثيرٍ من الوحدةِ؛ لم يعد أمامي إلّا أن أتمنّى أن يحضرَ مُتفرّجون كثيرون يومَ تنفيذ الحكم بإعدامي، وأن يستقبلوني بصيحاتِ الكراهية!».
# الغريب ألبير كامو By محمود قحطان،
اختبار.