قراءة في مقطع من نص؛ منطق الحب
قراءةٌ في مقطعٍ من نصِّ؛ منطق الحب
الشَّاعر: محمود قحطان
بقلم: أحمد العبدلي
محمود قحطان؛ الآتي من رحمِ الحب، الواقف على شرفاتهِ المضيئة عوالم الروح، وقفة تحت مجهرِ الحرف. تحليلاً بسيطًا لنفسية الشَّاعر الإنسان محمود قحطان.
ونقتبسُ بعضًا من إيحاءاتِ بوحهِ الإبداعي في ديوانه (البكر) الأوَّل.
مقطع نثري تأمَّلتُ في ملامحهِ خافقي، ووجدتهُ يستوطنُ القلب بجمالهِ وروعته..
لكلٍّ نظرته، ونظرتي كانت لما فاضَ به الشَّاعر محمود؛ نظرة ذهول لم َلامست من شعورٍ ينتابني عندما أنَخْتُ قافلة رغبتي في القراءةِ على أبوابِ ديوان (حبيبتي تفتح بستانها)، للآتي من رحمِ الصِّدقِ والحبِّ والجمال.
محمود قحطان، يمتشقُ محبرتهُ وشعوره الغيمة القادمة من سماءِ نبضهِ، في طيِّها الصِّدق، والهمسُ في شفتيهِ لحن أوتارِ القلوب، تعزفها أنامل الإبداع والتَّألق، وحرفهُ يُناغي السِّحر الإبداعي البديع.
من قصيدتهِ الجميلة (منطق الحب) يقول القحطان في المقطع السَّادس:
لِمَ الحبُّ أحيانًا كالبَّحرِ
دائمًا..
في حالةِ اندفاعٍ مُستمرْ
دائمًا يهوى السَّفرْ
لِمَ الحبُّ يُبهرنا في اللحظةِ الأولى
وفي اللحظةِ التاليةِ يسرِقُنا مِنَّا..؟!
هنا يقفُ الشَّاعر المحب والعاشق المبدع؛ كوقفة الحائر أمام شيءٍ إسمه الحب مخاطبًا ذاته، وكأنَّهُ يُخاطبُ كلَّ إنسانٍ اغتسلتْ روحهُ بماءِ الحُبِّ. يخاطبُ كلَّ إنسانٍ نهلَ من منهلهِ العذب الصَّادق الطهور. فنراهُ يبدأ بقولة:
لِمَ الحُبُّ
أداةُ تساؤلٍ (لِمَ) يكتنفُ قلب العاشق الشِّاعر غموض وحيرة تجاه هذا الحب وما يعتريهِ في عالمِ المحبِّين من أمورٍ عظيمةٍ دون يدٍ ودون جيشٍ أو عتاد!
(لِمَ الحبُّ) ولا بد لكلِّ فعلٍ من فاعلٍ، والفاعلُ هنا هو؛ الحبّ.
لنتابع ماذا فعل….
لِمَ الحُبُّ (أحيانًا)
الحبُّ هو المغير والمسيطر والدَّافع الرئيسي للتَّعبيرِ عمَّا في نفسِ العاشق. ولا بدَّ للفاعلِ من زمنٍ يكون فيه البطل أو المغلوب، ومحمود قحطان بعد تساؤله وحيرتهِ من الحبِّ جعل الزمان أو شيئًا من الزَّمانِ ساحة حدث على صدرها الحوار معركة ذاتية لا بدَّ أنْ يشعرَ بها كل محبٍّ عرفَ الحبَّ وذاقَ من كأسهِ سواء كان لك الحب حلوًا أومُرًّا، فقال (أحيانًا)، لم يقلْ؛ لِمَ الحب قاسٍ أو مرير، أو قال أنَّهُ جميل ورائع، لم يقلْ؛ لِمَ الحب فاتن أو قبيح، بل حاول الخروج إلى رحابٍ تصويري أرحب لتكتمل الصورة الجمالية في التعبير (أحيانًا).
انظر هنا؛ وليس كلَّ حينٍ؛ لأنَّه لو كان كلُّ حينٍ؛ لما عرف المحب راحتهُ، ولا هدأت روحه، ولا أستقرَّ في حبِّهِ أبدًا، لكنَّهُ أحيانًا -الحب– يضطَّربُ ويموج. وهذا الإضطراب؛ لا يكون إلا في قلبِ العاشقين فقط، ومحمود هو الشَّاعرُ العاشق الإنسان. لنتابع الروعة في انسيابِ التَّعبير في شعرِ المحمود.
(لِمَ الحُبِّ أحيانًا..)، يجوزُ لك أن تقول: لِمَ الحُبُّ أحيانًا، يُعذِّبنا ويبكينا أو العكس… لكن؛ عندما تُلقي المسؤولية على عاتقِ الشَّاعر ليعبِّر عن شعورهِ وعن شعورِ كلِّ قارئٍ وعاشقٍ لا بُدَّ أن يدخلَ إلى تفصيلٍ مُميِّزٍ، وتشبيهٍ أروعْ، وصورةٍ أجملْ، سواء كان ذلك في اللغة إعرابًا أو حرفًا، أو كان في البلاغةِ تشبيهًا أو كنايةٍ واستعارات؛ ليزداد المعنى جمالاً في القصيدةِ أو المقطوعةِ النَّثريةِ للشَّاعر.
لِمَ الحُبُّ أحيانًا كالبَّحرِ
هنا يكتمل الإبداع في الجملة.
الشِّعرُ مفتاحُ الدُّخولِ إلى مُدنِ الحيرةِ (لِمَ)، والحبُّ الفاعلُ، والزَّمانُ واقعٌ بينهما؛ ليكونَ للواقعِ الذَّاتي في نفسِ المُحب، فكان يحدثُ فيه للمحمود.
(كالبَّحرِ).. الكاف أداة تشبيه والبحرُ المشتبه به.. والمشبَّهُ هو الحب.
صورةٌ فنِّيةٌ بديعة، واترك للقارئ التَّخيل، أو الشُّعور بحالةِ المحبِّين.. وما أبدعَ لهم تعبيرًا محمود الإنسان
كالبحر…
(أحيانًا كالبَّحرِ)، تهيجُ أموجهُ بعد سكونٍ، كذلك الحبُّ.
الإضطرابُ هنا، وتشبيهُ البَّحرِ بالبَّحرِ، هو أنَّ العشَّاقَ دومًا بحُبِّهم بينَ خوفٍ وحُزنٍ وسكنيةٍ وقلقٍ؛ أو بينَ سعادةٍ وفرحٍ وأحلامٍ وهناءٍ وهدوء… إلخ. وبينَ بُعدٍ وفراقٍ وحنينٍ؛ أو بينَ لقاءٍ وعناقٍ ووصالٍ ورخاء. هكذا شبَّه المحمود الحبَّ بالبَّحرٍ وأردف قائلاً:
دائمًا يهوى السَّفر
ولكن أنَّا للحبِّ قلبٌ ينوي إلى حيث يريد، وأنَّا لهُ أقدامٌ تسافرُ إلى المُبتغى. إنَّها صورةٌ رائعةٌ ولوحةٌ بديعةٌ رُسمت بريشةِ المحمود. والسَّفرُ هنا؛ ليس سفرًا إلى حيث نسافرُ نحن! لا… بل إلى شيءٍ لا تدركهُ إلا الرُّوح، إنَّهُ السَّفرُ إلى بلادِ الأحلامِ أو الأحزانِ. إلى حيثُ هاجس للشِّعرِ يُصوِّرُ لنا الزَّمانَ والمكانَ لهذا المُسافرُ الجميل. والطَّريقُ هي مشاعر المُحبِّين وبهجتهم.
لِمَ الحُبِّ يُبهرنا..
متى يا محمود؟ قال:
في اللحظةِ الأولى
ولا بد للحبِّ من لحظةٍ أولى، هي أجملُ لحظةٍ بعمرِ المُحبِّ والعاشق. وهنا محمود جعلَ الإنبهار في اللحظةِ الأولى مفردةً رائعةً تُكمِّلُ الصُّورةَ الشِّعرية الرَّائعة، والإنبهار يكون بالشِّيء الرَّائعِ الجميل، أو حتَّى غير المستحسن، لكنَّهُ دومًا هو العاشقُ فينبهر بلحظةِ حبِّهِ الأولى.
ومحمود؛ مازال يستخدمُ أداة التَّساؤِل والحُبِّ هو الدَّافعُ لشعورهِ وكتابةُ القصيدةِ لديه (يبهرنا) النا، مفعول به منصوب بالألف، والفعل (يبهر)، والفاعلُ هو (الحبُّ)، فلو قال (يُبهرني)، لانفردَ بالتَّعبيرِ، وتعبير المضمون هنا تمامًا؛ لأنَّ الياء ستكون أداة المخاطب والمتحدِّثُ عائدة عليه، هو العاشق. لكن الـ (نا) جمعٌ؛ وهذه ميزة زادت المقطع الشِّعري روعةً وإبداعاً وجمالاً.
ختمَ المحمود مقطعه الشِّعري بالآتي:
بعد تساؤلٍ وعتابٍ وحيرةٍ وتصوير.. ومعاشة للحُبِّ. أردف قائلاً:
يسرقنا منَّا
الله! يا لهُ من إبداعٍ، مشبع بجمالِ الصُّورِ واللغةِ والتَّعبير، كيف لك أيُّها المُحبُّ أو غيركَ أن يسرقكَ الحبُّ منكَ، ولمْ يسْرقكَ أنت؟
إنَّها حداثةُ الشَّاعر المحمود، مشبعة بالإبداعِ والصُّور التي لم ينقصها أبدًا الخيال الإبداعي الجميل لدى الشَّاعر المتألق؛ محمود قحطان.
أحمد العبدلي،
صنعاء