رأيت رام الله: ملحمة الغربة والاغتراب
رأيت رام الله: ملحمة الغربة والاغتراب
عنوان الكتاب: رأيت رام الله. اسم المؤلف: مُريد البرغوثي. الطبعة: الرَّابعة. مكان الطبع: الدَّار البيضاء. النَّاشر: المركز الثَّقافي العربي. سنة الطبع: 2011. القياس: (14.5×21.5). عدد صفحات الكتاب: (224) صفحة.
تتكوّن سيرة رأيت رام الله من تسعةِ فصول.
الفصل الأول: الجسر.
الفصل الثَّاني: هنا رام الله
الفصل الثَّالث: دير غسّانة
الفصل الرَّابع: السَّاحة
الفصل الخامس: الإقامة في الوقت
الفصل السَّادس: عمُّو بابا
الفصل السَّابع: غُربات
الفصل الثَّامن: لم الشَّمل
الفصلُ التَّاسع والأخير: يومُ القيامة اليوميّ
آخرُ ليلةٍ له في رام الله.
رأيت رام الله: ملحمة الغربة والاغتراب
يقولُ إدوارد سعيد في الكتاب: «أعرفُ تمامًا هذا المزيج من المشاعر حيث تختلط السَّعادة، بالأسف، والحزن والدَّهشة والسَّخط والأحاسيس الأخرى التي تُصاحب مثل هذه العودة. إنَّ عظمة وقوَّة كتاب مريد البرغوثي تكمن في أنَّهُ يُسجِّل بشكلٍ دقيقٍ موجعٍ هذا المزيج العاطفي كاملًا، وفي قدرتهِ على أن يمنح وضوحًا وصفاءً لدوَّامةٍ من الأحاسيس والأفكار التي تُسيطر على المرءِ في مثلِ هذه الحالات».
قرأت رأيت رام الله مرَّتين. نسخةً إلكترونيّةً سيّئة الصُّنع. ونسخةً ورقيّةً بديعة؛ لذلك لا أنصحُ بقراءة النّسخِة الإلكترونيّةِ لأنّها من أسوأ الموجودِ في الإنترنت.
مُريد البرغوثي، شاعرٌ فلسطيني، وُلد في عام 1944م، في قريته (دير غسانة) التي تحدَّث عنها وعن أهلها في كتابهِ بكثيرٍ من التَّفصيلِ. إذًا هو من أبناءِ الضِّفةِ الغربيّةِ، و(رام الله) بوّابة العبور إلى قريتهِ. تخرَّج في جامعة القاهرة عام 1967م، حاملًا شهادةً في الأدبِ الإنجليزي، مُتزوِّجٌ من الرِّوائيّةِ المصريّةِ (رضوى عاشور)، وله منها ولدٌ واحدٌ، هو الشَّاعر (تميم البرغوثي). الآن عرفنا، كيف انتقلتْ جيناتُ الشِّعرِ الوراثيّةِ إلى تميم؟
حازَ كتابُ (رأيتُ رامَ الله) مناصفةً مع كتابِ (قصّة حب) ليوسف إدريس، في دورتِها الثَّانية؛ على جائزةِ نجيب محفوظ للإبداعِ الأدبيّ عام 1997م، تلك الجائزةُ الّتي تُمنحُ للأعمالِ الأدبيّةِ الرِّوائيّة.
أنا لم أعرف مُريد قبل ذلك، ولم أقرأ لهُ شِعرًا، وهذا هو أوَّلُ أعمالهِ الّتي أحصلُ عليها. ورُبَّما هو ترتيبُ القدرِ، أن تكونَ معرفتي بهِ من طريقِ نثرهِ الّذي يمتازُ بالسَّردِ الأدبيِّ المُمتعِ والأنيق، والخيالِ المُحبّبِ، والتَّشبيهاتِ اللّطيفةِ الذَّكيّةِ، وبعضٍ من السُّخريةِ السَّوداء.
لا يُمكننا أنْ نقرأَها كروايةٍ، يُمكنُ أن نعدّها من أدبِ السِّير الذّاتيةِ، تحملُ في طيّاتها مذكّراتٍ، قصصٍ، خواطرَ. يُمكن أن نقول: إنَّهُ مَزجَ بين القصَّةِ والسِّيرة الذَّاتيّةِ. هي تجربةُ شاعرٌ تغرَّبَ عن وطنهِ لأكثرَ من ثلاثينَ عامًا، مُتنقّلًا كحقيبةِ السَّفرِ من بلدٍ إلى بلدٍ، لم يفتحها يومًا؛ إلَّا ووجدَ نفسهُ في مكانٍ آخرٍ، يُغلقها. عنوانهُ الفنادقَ والشُّققَ المُؤجَّرة، لم تعرفْ قدميهِ الاستقرار قطّ.
الآن -تحديدًا في عام 1996م، وبعد أن خرجَ من فلسطين عام 1946م، طالبًا للعلم في جامعة القاهرة- يعود إليها مُحمَّلًا بأطنانٍ من الحنينِ واللّهفةِ والشَّوق، وكثيرٍ من الاغتراب! إغترابٌ عن أهلهِ وأرضهِ، واغترابٌ داخليٍّ بعد عودته، واغترابٌ في اغترابهِ، حين مكثَ بعيدًا عن زوجتهِ وطفله.
يبدأُ عنوانُ الكتابِ بكلمةِ (رأيتُ)، وهناك فرقٌ بين (الرُّؤية) و (الرُّويا): وهو كالفرقُ بين الدَّلالةِ والمعنى. فالرُّؤية هي: مصدرُ الفعل (رأى)، أي أبصرَ بالعينِ المجرَّدة. ومع أنَّ مُريد يؤكِّدُ ما يراهُ بعينيهِ؛ إلَّا أنَّ هذه الكلمة عندما تصدرُ من شاعرٍ، فإنّها تُشيرُ إلى أعمقَ من ذلك، يأخذُنا إلى أبعادٍ جديدةٍ، إلى حدودٍ أكثرَ اتِّساعًا. الرُّؤيا كما يُعرِّفها أدونيس في (زمن الشِّعر):
«أن ترى في الكونِ ما تحجبهُ عنَّا الألفة والعادَة، أن تكشفَ وجهَ العالمِ المخبوءِ، أن تكشفَ علائقَ خفيَّة».
إذًا هو يتعدَّى النَّظرة السَّطحيّة، ليكشفَ علاقاتٍ جَديدةٍ تتعدَّى ما تدلُّ عليه الصُّورة، يتعدَّى الدَّلالة الرَّمزية للأشياءِ، ويتقصَّى ما وراءَ الوراءِ؛ أي: ما وراءَ الواقعِ، بعكسِ الرُّؤيةِ الّتي تلتصقُ بالواقعِ، وتصفُهُ، وترسمهُ كما هو، وتأخذُ منهُ أحداثه.
رأيت رام الله، لا يُريدنا الشَّاعرُ أن نراها بحاسّتنا البصريّة فقط، يُريدُنا أنْ نمزُجَ بين الحاسَّةِ والخيالِ؛ أي: بين ما يَرى وما يُرى، بين توثيقِ الواقعِ وارتباطهِ بالحسِّ والعقلِ، وبين تجاوزِ هذا الواقعِ والانتقالِ إلى بُعدٍ يتجاوزُ الماديّ والمحسوسِ إلى مِنطقةٍ تصلُ بنا إلى الحُلمِ وتَفتِنُ الذَّاكرة! أنْ نتعدَّى الاكتفاء باللّمحةِ الّتي تعرضُها الصُّورةُ، إلى القُدرةِ على تكوينِ رأيٍ وتَقديمِ مَوقفٍ يمرُّ من الماضي إلى المستقبل. باختصارٍ؛ يدعُونا إلى التَّأملِ. إذًا الكلمة تحملُ في طيَّاتها معَانٍ كثيرةٍ، تحملُ اللّهفةَ والشَّوقَ والفرحَ، سعادةَ الطِّفل عندما تُهديهِ شيئًا جديدًا، وتحملُ أسىً شفيفًا، وحزنًا يلتهمُ قلبَ الشَّاعرِ. هي كلمةٌ، تنقلُ لنا رؤيتينِ عبر زَمنينِ!
الذَّكرياتُ لا تبقى على حالِها، حتَّى وإن اجتهدَنا في الحفاظِ عليها. سيرَتَهُ الّتي قصّها بكلِّ إرادتهِ هي: عنوانُ السَّنواتِ الّتي قضَاها بلا إرادةٍ مُغيَّبًا عن وطنهِ، مكسورًا كطائرٍ جريحٍ، كريشةٍ تركلها الرّيحُ في كلّ اتّجاه. هذه السِّيرةُ، ليست سيرَتَهُ وحدَه، بل سيرةُ الملايين الّذينَ شرَّدهم الاحتلالُ؛ هي: حكايةُ المسجونونَ، والمهزومونَ، والمُغتَرِبونَ، والمنفيُّونَ، واللَّاجئونَ، والهاربونَ، والمُهرَّبونَ، والمُبعثرونَ خارج أسوارِ الوطن. هو وجعُ ومرارةُ وخيبةُ كلّ الفلسطينيّين المنزوعين من جُذورِهم، والمزروعين في أراضٍ غريبَةٍ -في الغالبِ- لا تُرحِّبُ بهم. هذهِ السِّيرةُ الّتي تحملُ في داخلها ذكرياتِ الطُّفولةِ، وقِصَصِ (دير غسانة) ووجوهِ جيرانها، ووجوهِ الأصحابِ والأقاربِ من بقيَ منهم ومن رَحل. وتنقُلُ رائحةَ المكانِ وأشجَارهِ وزيتونهِ ومدرستهِ وبيتهِ، ومواقفَ وأحداثًا يوميّة، وكثيرًا من التَّفاصيلِ الصَّغيرةِ الّتي اجتهدَ (مُريد) في إحيائِها من ذاكرتهِ وبعثِها فوقَ الورقِ الأبيضِ، ذلك البياضُ النَّقيّ والصَّافي كسريرته.
الحقيقةُ، إنّ هذا الكتاب، يحتاجُ إلى أن تقرأَهُ أكثرَ من مرَّةٍ، فأسلوبُهُ الأدبيّ يُغريك بالعودةِ إليهِ للتَّلذُّذِ باللّغةِ والتَّعبيرِ القريبِ من القلبِ، وطريقةِ العرضِ والوصفِ الدَّقيقِ، والتَّفاصيلِ المنحوتةِ بدقّةِ شاعرٍ؛ لتشعركَ أنَّك في داخلِ الحدثِ وفي الزَّمنِ نفسه تشاركهُ مسيرة الوجع. سيجذبك الكتاب إليه كلَّما أردتَ أن تتنفَّسَ حُزنًا، فنحنُ دائمًا مسكونونَ بأوجاعنا ونعشقُ أن نبقى في بئرِ المُعاناة.
هي روحهُ التي يدلِقُها كمرآةٍ، ستُتعبك هذه التّجربة، وستحفِرُ في قلبكَ عميقًا، وتخِزهُ لتعذِّبه، فالألم سيسري من قلبِ (مُريد) ليحتلَّ قلبك، وستسري في روحك قشعريرة المنافي، وستسقطُ في مزيجٍ فريدٍ من الحُزنِ والحماس، من الألمِ والإصرار، من البُكاءِ والصُّراخِ، فينكسر شيئًا في داخلك، ويُبنى شيء، وستصبحُ العودةُ هي هاجسُك، العودةُ إلى أرضك، وإلى من تنتمي، وستخجلُ مرَّةً، وتعذرُ نفسك مرَّاتٍ عديدة.
لم يتعمَّدْ (مُريد) إسقاط الطَّابع البطولي على شخصيّاتهِ أو حتَّى شخصيّته فابتعد عن تمجيد الشَّخصيّةِ الفلسطينيّةِ وتصويرها شعريًّا كأنَّهم كائناتٌ خرافيّةٌ أو ضحايا، فالإنسانُ الفلسطينيّ مثلهُ مثل أفرادِ شعوبِ العالم، يتألّم، يتأثَّر، يضعف، يَجبُن، يُرائي، ويتسلَّق، باختصار: هو ليس الإنسان العربي الكامل، ولا الإنسان المُستحيل، وهذه من علاماتِ الحيادِ في هذا الكتاب. فقد تعوَّدنا في الأدبِ الفلسطيني، تصوير الشَّخصيّة الفلسطينيّة بصفاتٍ ترفعُها عن مستوى البشر العاديين، فهم الأبطالُ، الفدائيّونَ، الصَّابرونَ، المُتماسكونَ، القانعونَ، الّذين ترتبطُ جذورهم بباطنِ الأرضِ؛ ليصبحَ الفلسطينيُّ النَّموذجَ الأوحدَ أو النَّموذجَ المثالي للإنسان العربي. إذًا، هم بشرٌ ككلّ البشرِ، وليسوا شعبَ المُعجزةِ والمُستحيلِ والاختلاف.
يُقدِّم الكتاب معلوماتٍ عديدةٍ عن طبيعةِ الحياةِ في فلسطين، ويستخدمُ عدسةً مُكبّرةً لرؤيةِ التَّفاصيلِ الشَّديدةِ الّتي يعيشها الإنسان الفلسطيني في واقعه، هي رؤيةٌ شديدةُ القربِ، وشديدةُ الحساسيّة، وشديدةُ الحرارة. يرسمُ لنا لوحةً تضجُّ بالتَّفاصيلِ الإنسانيّةِ اليوميّةِ في الضِّفةِ الغربيّةِ وفي القدسِ وفي رامَ الله وفي قريتهِ، ويُوثِّقها توثيقًا تاريخيًّا مُعاصرًا، مازجًا السِّياسةَ بالاقتصادِ بالحياةِ الاجتماعيّةِ بالمعاناةِ الشَّخصيّة، هي لوحةٌ كبيرةٌ لمشهدٍ كبيرِ، فكانَ خيرَ مثالٍ للمدرسةِ الواقعيّة.
استرسالهُ في مواضعَ كثيرةٍ ليُعلن عن فلسفتهِ الخاصَّة، وحوارهِ الدَّاخلي المُتعدِّد، وانغماسهِ الشَّديدِ في عرضِ التَّفاصيلِ؛ قد يُصيبك بالمللِ؛ ما يجعلك لا تستطيع إكمال الكتاب في جلسةٍ واحدةٍ، وفي الغالبِ لن تستطيع؛ فالمشهدُ كبيرٌ، ويحتاجُ إلى التَّفكّرِ والتَّأمل.
قد يأتيك إحساسٌ بعدمِ المُبالاة، أقصدُ ألّا تهتمّ بالكتاب، فهو يتحدَّثُ عن قضيّةٍ فلسطينيّةٍ بحتة، تخصُّ الفلسطينيّون وحدّهم، وذُكِرتْ كثيرًا في الأدب، فلا جديد يُقدِّمهُ الكاتب، فكلّ ما عاناه شخصيًّا، عاناهُ ويُعانيه كلّ فلسطينيٍّ مُغتربٍ عن وطنهِ أو مُقيم، الفرقُ أنَّهُ استطاعَ أن يكتبَها؛ لذا فإنَّ الكتابَ سيهمُّ فئةً مُعيَّنة، هم أولئك الفلسطينيّون الّذين على اتصالٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ بالقضيَّةِ الفلسطينيّةِ. رُبَّما لا تتعاطفُ معهم، أو تتخيّل مُعاناتهم؛ نظرًا لأنَّ كلّ شعوبِ البلدانِ العربيّةِ تُعاني، فبعضهم يجدُ أنَّ غربتك وأنت في داخلِ وطنك أصعبُ من غربتك وأنتَ خارجه، فالهمُّ العربيُّ واحدٌ، بل إنَّ بعضهم يؤمنُ أنَّ الفلسطينييّن المغتربين أفضل حالًا من المُقيمين؛ لكلّ ذلك قد لا يُؤثِّرُ الكتابُ فيك. من جانبٍ آخر؛ قد يكون هذا الكتاب سببًا في أن ترى الوجهَ الآخر لفلسطينَ، الوجهَ الّذي تنقلهُ وسائلُ الإعلامِ حتَّى اعتدَنا عليه، فتكتشف أنَّ كلّ شهيدٍ، ومُغتربٍ، هو قريبك، وأهلهُ هم أهلك، لتتغيرَ نظرتك إلى فلسطينَ، وتكونُ بمنزلةِ الأمّ الثَّانية.
لغةُ الكتابِ شاعريّةٌ جدًّا، هو لا يُحرِّضنا على فعلِ شيءٍ، هو يعرضُ تجربته –فقط- على مدى ثلاثينَ عامًا، وهذا سبب عدم لجوئهِ إلى الكلماتِ الحادَّةِ أو القاسيةِ، تلك الكلماتُ الّتي تُعرِّي الجُرحَ لتصبَّ عليه أكياسًا من الملحِ الحارق. لم يُحاول طرح حلولًا سياسيّةً، أو حلولًا فلسفيّةً لحلِّ قضيّته، هو ببساطةٍ يعرضُ مشاعرَه بصدقٍ، وبذكاءٍ؛ يتعمَّدُ إدخال الّلهجةِ الفلسطينيّةِ في مواضعَ عدَّةٍ ليُشعركَ بالألفةِ مع شخصيَّاتِ كتابه.
سيرسمُ الكتابُ المشهدَ الغائبَ عن أعيننا، نحنُ لم نزرْ فلسطينَ، ولم نفهمْ تاريخها جيِّدًا، كنَّا صغارًا؛ نتعاطف معها عندما يطلبون منَّا -في المدرسة- أن نتبرَّعَ بمبلغٍ من المال لدعم إخواننا الفلسطينيّين، كنَّا ندعمُ القضيّة ولا نُدرك، كنَّا عميانًا، وعندما كبُرنا؛ لازمنا هذا العَمى المؤقّت، (مُريد) يفتحُ أعيننا على الواقعِ الفلسطينيّ، اختصرَ تاريخها في قريته.
عندما تقرأُ الكتابَ سترى فلسطينَ،
والقدسَ،
والضِّفةَ الغربيّةَ،
ورامَ اللهِ،
وقريةَ ديرِ غسانة،
رأيت رام الله ليس موسوعةَ معارفَ جُغرافيّة؛ ولكنَّهُ سيستطيعُ ببراعةٍ أن يُجسِّدَ لك المشهد؛ وكأنَّك حاضرٌ معه.
# رأيت رام الله: ملحمة الغربة والاغتراب By محمود قحطان،
لقد قرات هذا الكتاب فعلا من اجمل الكتب التي قراتها
نعم، هو كتاب رائع بسبب لغته الشّعريّة الجميلة.