الشيطان والآنسة بريم باولو كويلو
الشيطان والآنسة بريم باولو كويلو
يصلُ رجلٌ غريبٌ إلى قريةِ (فسكوس)، وهي قريةٌ صّغيرةٌ جدًّا تقعُ في فرنسا، ويبلغ عدد سكّانها 281 نسمةً فحسب، كانت في الماضي مكانًا يزحفُ إليهِ اللّصوصُ والبغايا والمُجرمون، أمّا اليوم فهي مجرّد قرية هادئة لا يحدثُ فيها شيءٌ مثيرٌ.
العجوزُ (بيرتا) المرأةُ الطاعنةُ في السّنِّ، الّتي تقول إنّها لا تزال تتحدّثُ مع زوجها المَيّت، وإنّها يُمكن أن ترى الشيطان، وإنّها تستطيع قراءة العواطفِ، وتقدرُ على قراءةِ علاماتِ المتاعبِ في العواصفِ؛ خَمّنتْ حين رأت الغريب أنّهُ شرٌّ مُقبلٌ عندما رأتْ شيطانهُ يُلازمهُ كظلّهِ، فكّرتْ في أن تُخبرَ الآخرينَ بما رأتهُ؛ ولكنّها أيقنتْ أنّ أحدًا لن يُصدّقها، فاكتفت بمُراقبتهِ من طريقِ جلوسها الدّائم أمام بيتها، ذلك الجلوس الّذي تُلازمهُ منذ وفاة زوجها، تُلقي التّحيّةَ على المارّةِ وتتأمّلُ الحياة.
أمّا الآنسة (شانتال بريم) الجميلة والشّابة، نادل القريةِ الّتي تطمحُ إلى فرصةٍ للزّواجِ من غريبٍ تُتيحُ لها السّفر خارج حدود هذه القرية، فلم يكُن الغريبُ سوى فرصةٍ جديدةٍ فكّرتْ في السّعي لاستغلالها؛ مع أنّها أخفقتْ كثيرًا مع العابرين الّذين يُعدونها بأشياء لن تتحقّق، ثمّ يذهبون. جلستْ في طريقِ عودتهِ من الغابةِ الّتي ذهبَ إليها، تقرأُ كتابًا تحملهُ في يدها، لم تكُن تعلم أنّها تضعُ نفسها إزاء تحدٍّ كبيرٍ سيُغيّرُ حياتها.
أقنعتْ نفسها بأنّه لا خطرَ مُحتمل في الاستجابةِ إلى طلب الغريب بأن تُرافقه إلى الغابةِ، فقد علمَ الجميعُ بقدومهِ إلى القريةِ ولنْ يجرؤ على فعلِ أيّ شيءٍ يجعلهُ موضعًا للاتّهامِ والهجوم.
التقى الغريبُ (شانتال). حدّثها أنّهُ يبحثُ عن بعضِ الإجاباتِ عن أسئلتهِ، وأنّهُ سيختبرُ النّاسَ في القريةِ من أجلِ العثور على إجابتهِ. ذَكرَ لها إنّ بعضَ النّاسِ السّيئين قتلوا أسرتهُ بأكملها، وأنّهُ يحتاجُ إلى معرفةِ ما إذا كانَ النّاسُ في جوهرهم جيّدين أم سيّئين، وبعدَ أنْ أخبرها أنّ لديه ذهبًا كثيرًا مدفونٌ في الغابةِ، عقَدَ معها صفقةً تنقسمُ إلى جزأين: جزءٌ يخصّها، والجزء الآخر يخصُّ كلّ شخصٍ في القريةٍ، فهو على استعدادٍ أنْ يُقدّمَ الذّهبَ إلى أهلِ القريةِ في حالةٍ واحدةٍ فقط، إذا كانوا على استعدادٍ لقتلٍ أحدهم. هذا الذّهب الّذي سيُغنيهم عن العملِ بقيّة حياتهم!
ساعدها على أنْ تحفرَ تحتَ صخرةٍ مُعيّنةٍ، فوجدتْ سبيكةً ذهبيّةً أخبرها أنّها ستكونُ لها إذا أخبرتْ أهالي القرية بما عرَضهُ عليها. أمّا الّصخرة الأُخرى الّتي كانَ عليها أنْ تحفرَ تحتها فكانت تُخفي عشرَ سبائكَ ذهبيّة، ستكونُ من نصيبِ أهالي القريةِ بعدَ أن يقتلوا أحدهم!
كانَ يُريدُ أن يختبرَ حقيقةَ صراعِ الخيرِ والشّر داخل الإنسان، وإن كانَ الشّرُ ينتصرُ دائمًا، مثلما حدثَ معهُ حين قتلَ مُجرمونَ زوجتهُ وابنته دونَ أيّ هدف، فقد استطاعتِ الشّرطةُ قتلهم جميعًا؛ ولكنّهم قبلَ أنْ يموتوا كانوا قد أخذوا معهم روحَ الزّوجةِ والطّفلةِ -اللّتين كانتا في حوزتهم رهينتين-؛ ليتركوا في الحياةِ شخصًا مجروحًا وتائهًا لم تستطعِ السّنواتُ أنْ تُساعدهُ على استيعابِ ما حدثَ. حاولَ البحث ليُثبت لنفسهِ أنّهُ ليس استثناءً، وأنّ ما حدثَ معهُ أمرٌ مُتوافقٌ مع طبيعةِ البَشر. هي تجربةٌ تضعُ حياةَ إنسانٍ على المحكّ في مُحاولةٍ للتّداوي من جرحٍ قديم.
يتنازعُ الخيرُ والّشرُ داخل الآنسة (بريم)، ولا تعرف إنْ كانَ عليها أنْ تسكتَ على ما حدثَ بينها وبين الغريب وتنتظرَ انتهاء مُدّة الأسبوع الّتي سيقضيها في القريةِ، ثمّ يرحلُ بعدئذٍ حاملًا مالهُ الذّهبي معهُ، أم أنّ عليها إيصال الرّسالة والمُراهنة على أنّ سكّانَ القريةِ طيّبونَ ومُسالمونَ ويستحيلُ أنْ يخطرَ ببالهم قتلُ شخصٍ طمعًا في المَالِ مهمَا كانَ كثيرًا؛ معَ أنّها بسببِ الطّمع في المالِ نفسهُ تُفكّر في المُخاطرةِ بحياةِ إنسانٍ بريء!
استطاعتِ الصّمود لفترةٍ لم يكُن في أثنائها يتحدّثُ أو ينظرُ إليها إلّا حينما يطلبُ منها طلبًا في عملها في الفندقِ الّذي يُقيمُ فيهِ، وعندمَا تبقّى لوقتِ رحيلهٍ ثلاثةُ أيّامٍ فكّرتْ في أنْ تُعْمِلَ عقلها للوصولِ إلى خياراتٍ أُخرى بدلًا من أن يعودَ الّرجلُ بمالهِ وتخسرُ هي وأهالي قريتها كلّ شيءٍ، جرّبت عددًا من الأحاديث الإنسانيّة والمنطق والأمثلة الحيّة لإقناعهِ بأن يُضيف إلى اقتراحهِ أمرًا ثالثًا في حالِ انتصرَ الخيرُ على الشّرِّ، فلا يُمكن وضعُ مُكافئةٍ في حالِ انتصارِ الشّرِّ فحسب؛ لأنّ الأمرَ في هذهِ الحالة تحريضٌ مُباشرٌ على الشّرِّ وليس مُحاولة لدراسةِ السّلوك البشريّ كما يزعم.
وافَقَ على عرضها، فالسّبيكة الأُولى لها في حال أخبرتْ أهلَ القريةِ بالأمر، والعشر سبائكَ من نصيبِ أهالي القريةِ في حالِ قتلوا أحدَهم، وفي حال اختاروا عدمَ قتلِ أحدهم ورفضوا العرضَ المُغري الّذي قُدِّم لهم؛ فإنّ العشر سبائكَ ستكونُ من نصيبهم أيضًا، مكافئةً لهم على التزامهم جانب الخير؛ إلّا أنّ الجزء الأخير من العَرض لن يُذاع، وإنما سيكون سرًّا لا يعرفهُ سوى الغريب والآنسة بريم.
في تلك اللّيلةِ قاطعتْ أحاديث الموجودين في مقهَى الفندق وأخبرتهم بقصّتينِ، الأُولى عن تاريخ هذه القرية الّتي كانت ملاذًا لقطّاع الطّريق والمُجرمين إلى أنْ جاءَ عهد (آهاب) الّذي نصبَ في وسط القريةِ مشنقةً كبيرةً قرأ أمامها القوانين الجديدة الّتي تفرضُ على كلِّ شخصٍ أنْ يشتغلَ بعملٍ صالحٍ يكسبُ رزقهُ منهُ، وأن يلتزمَ الجميعُ بالقانونِ والخيرِ والعدلِ، ومن يومِها تحوّلتِ القريةُ إلى مكانٍ هادئٍ يتّخذُ فيه الجميعُ الخياراتِ الصّحيحةِ والطّيبة.
أمّا الحكايةُ الثّانية فكانتْ حكايةُ الغريب، دون أن تُخبرهم بأنّها ستحصلُ على سبيكةٍ ذهبيّةٍ كمكافئةٍ على وضعهم في هذا التّحدّي الكبير، ودون أن تُخبرهم بأنّ اختيارهم للخيرِ سيكونُ له النّتيجة نفسها أيضًا، وأنّهم سيحصلونَ على المالِ في كلِّ حال، فهذا جزءٌ من الاتّفاق آثرتِ الالتزام به.
خرجَ الجميعُ مذهولين، ثم اجتمعوا في اليوم المُقبل في الكنيسةِ على غيرِ عادتهم، كأنهّم يبحثونَ عن هدايةٍ لأرواحهم الحائرة، ما لم يتوقّعوه أنْ يكونَ حديثُ الكاهنِ عن فلسفةِ التّضحيةِ في الدّينِ المسيحيّ، وكيف أنّ المسيحَ قد ضحّى بنفسهِ لأجل خير البشر، حديثٌ جعلَ فكرةَ قبولِ العرضِ واردةٌ في الأذهان، بعد أنْ قدّم لهم الكاهن مخرجًا شرعيًّا يُريح ضمائرهم.
اجتمع لدى الكاهن كلّ من: رئيسِ البلديّةِ وزوجتهِ، وصاحبةِ الفندق، ومالك الأراضي، يتداولون بشأن الضّحية وكيفيّة قتلها، دارتِ الاقتراحاتُ حولَ الآنسةِ (شانتال بريم) نفسها؛ لأنّها يتيمةٌ لنْ يسألَ عن موتها أحدٌ، فقد تُوفّي والداها وجدّتها منذُ زمنٍ بعيدٍ، وبقيتْ في القريةِ وحدها. أمّا الخيارُ الآخر فهو العجوزُ (بيرتا) الّتي تقضي حياتها على كرسيٍّ أمام بيتها بلا زوجٍ ولا عملٍ ولا أبناء؛ الأمرُ الّذي رأى فيهِ المجتمعونَ تشجيعًا لهم على اختيارِها باعتبارِ أنّ القريةَ لن تفقدَ بوفاتها شيئًا. أمّا الخيارُ الثّالث فكان الكاهن! حيثُ عرضَ أنْ يكونَ هو الضّحيّة الّتي تُضحّي بنفسها لأجل خير الجَميع؛ إلّا أنّ القرارَ استُبعد لصعوبةِ إقناع أهل القرية بأن قتلَ كاهنٍ أمرٌ جيّدٌ، حتّى لو أخبرهم أنّهُ قراره.
شعرتِ العجوزُ (بيرتا) بما يحدثُ في القريةِ، وبزياراتٍ غير معهودةٍ من زوجةِ رئيس البلديّة وصاحبة الفندق، ففهمت أنّها المُرشّحة، ولم تستطعْ إخفاء جزعها من مُفارقةِ الحياة، فلم تكُن تريدُ أنْ تموت، ولكن أحدًا لم يسألها عن ذلك، ولا سمعَ لها أحد.
بعد الاجتماع بأهالي القريةِ والحصول على مُوافقتهم، جُلِبَتِ العجوز (بيرتا) ووُضِعَتْ في ساحةِ القرية، وجَلبَ جميعُ الرّجالِ بنادقهم؛ في حين بقيتِ النّساءُ يُشاهدن ما يحدُث، وُضِعَتْ في وضعٍ يسمحُ بالتّصويبِ تجاهها دونَ أنْ تُشاهد ذلك؛ ولكن (الآنسة بريم) ظهرتْ من بينِ الجموع وبدأت تتحدثُ بصوتٍ عالٍ عن الذّهبِ الّذي وعدَ بهِ الغريبُ، وتساءلت كيف سيبيعونه للحصولِ على المالِ منهُ؟ لو صُهِرَ وشُكِّل سبائك صغيرة بعددِ سكّانِ القريةِ فسوف تُصادرهُ الحكومة عندما يأتي كلّ هذا العدد من النّاس بسبائكَ ذهبيّة؛ لأنّهُ في هذه الحالة سيُعَدُّ كنزًا قد عُثِرَ عليهِ مدفونًا، الأمرُ الّذي تتعامل معهُ الحكومة بالمُصادرة، باعتباره حقّ عام.
أو أن تُعطى السّبائك الكبيرة جميعها إلى رئيسِ البلديةِ ليذهبَ بها إلى المَصرفِ ليبيعها ثمّ يقسم المالَ بينَ الجميعِ بعد عودتهِ، وفي هذه الحالة سيحتاجُ المصرفُ كثيرًا من الوقتِ والإجراءاتِ للتّحقّق من مصدر هذه السّبائك قبلَ صرف مبلغٍ من المالِ ضخمٍ كهذا لشخصٍ عادي، رُبّما تكشف التّحريّات أنّ هذا الذّهب مسروق أو مُكتسب من تجارةِ المُخدرّات؛ حينئذٍ سَيُبَرّأ رئيس البلدية نفسه ويقولُ الحقيقةَ إنّ هذا المال ليسَ لهُ، وإنّما كلّ شخصٍ من أهالي القريةِ لهُ فيه نصيب؛ ومن ثمّ سيُصبح الجميعُ مدانين بجرائمَ لم يرتكبوها!
كانتْ هذه الافتراضاتُ والتّحذيراتُ كافيةً ليضعَ الرّجالُ أسلحتهم ويعودوا مع زوجاتِهم إلى منازلهم؛ مع أنّ الكاهن ورئيس البلديّة حاولا إعادتهم إلى أماكنهم وإقناعهم بإكمال ما بدأوا به.
مع أنّ (الآنسة بريم) أنقذتْ حياةَ إنسانٍ في موقفٍ ينمّ عن الخيرِ؛ إلّا أنّها حينَ حصلت على سبيكتها الذّهبيّة من الغريب لأنّها وحدها الّتي تعرفُ بقيّة الاتّفاق، أخذتْ معها سبائك أهل القريةِ كلّها لأجلها وحدها، بعدَ أنْ رافقها الغريبُ إلى المصرفِ لتبيعه، فكانت هي: المثالُ الواضحُ لحقيقةِ صراعِ الخيرِ والشّرِّ في الإنسانِ، الّذي ما إنْ ينتصر فيهِ أحدُ الجانبين مرّةً، حتّى يعودَ الجانبُ الآخر لأخذ دوره… حتّى نهايةِ الحياة!
# الشيطان والآنسة بريم باولو كويلو By محمود قحطان،
هذه الروايات تنمي
الإبتداع تحت إسم الإبداع