بين راحتين من ورق

رجال في الشمس غسان كنفاني

رجال في الشمس غسان كنفاني

في رجال في الشمس نشأ أبو قيس في فلسطين. يتذكّرُ جيّدًا استماعهُ خارج نافذة الأستاذ سليم وهو يشرحُ للطّلابِ عن شطِّ العرب الّذي يتشكل عند مُلتقى نهري دجلة والفُرات، تذكّر ذلك وهو يَنوي البدء برحلتهِ الشّاقة للوصول إلى الكويت للعمل بها تاركًا المُخيّمات الّتي تأويه وابنه وزوجه. رحلةٌ اضطرّ لها بعد إلحاحِ أحد أصدقائه العائدين بالثّروة، قد تُحقّقُ حلمه بالحصولِ على المالِ اللّازم لتعليمِ قيسٍ وشراء عرق زيتون أو عرقين، ورُبّما بناء غرفة للسّكن، أو ستجعلهُ عُرضةً للمشاقِ والاحتيال، فدائمًا ما يتركُ الدّليلُ الأشخاصَ الّذين تكفّلَ بتهريبهم تائهين تحتَ الشّمسِ الحارقة، دونُ أنْ يعلمَ أنّهُ بذلك يقتلُ آمالًا هي آخر ما تبقّى لأصحابها، فهذه الرّحلةُ هي الأملُ الوحيدُ لأبي قيس، الرّجلُ العجوزُ لتغييرِ حياتهِ بعدَ عشرةِ أعوامٍ قضاها مُتبلّدًا إثر صدمة الاحتلال الصّهيوني للأرض والبيت ومزارع الزّيتون.

موضوع مُميّز: واحة الغروب

أمّا أسعد فشابٌ ثائرٌ ومُتفتّحٌ يُفكّرُ ويجادلُ ويتوقّعُ ويتفاوضُ مع المهرّبين على تقليلِ المبلغ، تذكّرَ ذلك وهو يبدأُ برحلتهِ الشّاقة السّابقة للوصولِ إلى الكويتِ للعملِ فيها، رحلةٌ عُرِّضَ فيها إلى الاحتيالِ والموتِ، اضطرّ فيها إلى السّير ساعاتٍ طويلةٍ تحتَ الشّمسِ قبلَ أنْ يُنقِذهُ رجلٌ وزوجهُ تفهّما ما حصلَ لهُ.
يثقُ رفيقا رحلتهِ في رأيهِ بفضلِ خبرتهِ ويعتمدانِ عليهِ في التّفاوضِ عنهما، وهو من استطاعَ أنْ يكشفَ حقيقةَ أنّ المُلقّب بأبي الخيزران الّذي عَرضَ عليهم أن يُهرّبهم إلى الكويت يعملُ مع صاحب عملهِ في تهريب النّاسِ إلى هُناك، وليس صحيحًا أنّهُ يفعلُ ذلك دونَ علمهِ؛ بلْ إنّ صاحبَ عملهِ الحاجّ رضا هو من يُهرِّبُ عادةً؛ في حين يترك الأعمال الصّغيرة العدد وقليلة الدّخل إلى أبي الخيزران ليُؤدّيها عنهُ.
يُسافرُ أسعد هذه الرحلة بالخمسينَ دينارًا الّتي أخذها من عمّهِ الّذي يُريدُ أنْ يُزوّجهُ ابنتهُ دونَ حتّى أنْ يسألهُ عن رغبتهِ في ذلك؛ الأمرُ الّذي يُشعره بمرارة حاجة الإنسان إلى إنسانٍ آخر، حين تجعلك حاجتك لهُ رهنَ إشارتهِ، يختارُ لك ما يُريد، ويُجبرك سواء أردت ذلك أم لم تُرِد.

مروان هو الرّاكبُ الثّالثُ في رحلةِ التّوغّلِ إلى الكويتِ رغبةً في العملِ، يبلغُ من العمر ستّةَ عشرَ عامًا، كانَ طالبًا في المدرسةِ حينَ كانَ أخوهُ زكريا يُرسل بالأموال من الكويت لأسرتهِ، أمّا عندما تزوّجَ زكريا توقّفَ عن ذلك، وطلبَ من أخيهِ مروان أنْ يتركَ المدرسةَ الّتي لا تُعلّم شيئًا سوى الكسلِ، وينزلُ إلى معتركِ العملِ ويُنفقُ هو على أهل بيتهِ بعد زواجِ أبيه طمعًا بأموال وبيت شفيقة الصّبيّة اليافعة الّتي بُتِرَت ساقها من أعلى الفخذِ إثر قنبلةٍ عُرِّضَت لها.

عُرِّضَ سائقُ الرّحلةِ الفلسطينيّ -الّذي لم يَعُد يُريد سوى الحصولِ على المالِ، والمالِ، والمالِ- فيما مضى إلى الاعتقالِ الّذي حَوّلهُ إلى رجلٍ عاجزٍ على أنْ ينامَ إلى جانب امرأةٍ حينما كانت ساقاه مُعلّقتان إلى فوقٍ وكتفاه ما زالتا فوقَ السّريرِ الأبيضِ المُريحِ والألم الرّهيب يتلولَبُ بينَ فخذيهِ؛ الأمرُ الّذي جعلهُ شديد الإحساس تُجاه الحديثِ في الموضوع، أو سؤالهِ عن سببِ عدم زواجهِ حتّى الآن.

تبدأُ رحلةُ كلّ راكبٍ من هؤلاء الرّكاب وحده، يُقاسي نفادَ الأموالِ الّتي بينَ يديهِ، والتّيهِ في الصّحراءِ، والجوع والعطش، وظُلم ذوي القربى.

إلى أنْ يذهبَ مروان إلى أحدِ المهرّبين لينقلهُ في المرحلةِ الأخيرةِ إلى الكويت، فيختلف معهُ الرّجلُ ويصفعهُ بعد تهديد مروان لهُ بإخبار الشّرطة، وعندما خرج مكسورًا التقاه أبو الخيزران الّذي كانَ يستمعُ إلى كلّ ما حدَث، فوعدَ مروان بأنّهُ سيوصلهُ إلى مراده ويأخذ مقابل ذلك مالًا أقل، يستلمهُ بعد الوصولِ إلى الكويت وليس مُقدّمًا! ومع الشّك الّذي راودَ مروان حول هذا العرض السّخي إلّا أنّهُ لم يبقَ لديهِ خيارٌ آخر، فطلبَ أبو الخيزران منهُ أن يجلبَ معهُ أشخاصًا آخرين ليزيد العدد، فأحضرَ مروان معهُ أسعد الّذي كانَ يجمعهما سكنٌ واحدٌ، وأحضرَ أبو الخيزران أبا قيس.

اجتمعَ الثّلاثةُ مع الرّجل الّذي سيُوصلهم ليكتشفوا بأنّهُ سيكون عليهم في أثناء نقاط التّفتيش أن يتخفّوا داخل خزان مياهٍ حديديّ، في أكثر شهور السّنة حرارةً! وفي أكثر المناطق قيظًا. قبلوا هذه الفكرة مع أنّ أبا قيسٍ رجلٌ كبيرٌ في السّنِّ وقد لا يحتملُ مُخاطرةً وشدّة كهذهِ.

بدأوا طريقهم بجلوس اثنين منهم معهُ في حين يضطرّ الثّالثُ إلى البقاء في الخزان لعدم وجود مكانٍ آخر له، ويتركُ باب الخزّان مفتوحًا للتّهوية وتقليل الحرارة، أمّا قبل التّفتيش بقليلٍ فيدخلون جميعًا إلى داخل الخزّان، يتمسّكونَ بأعمدةٍ حديديّةٍ موجودة داخله، ويقفلُ عليهم أبو الخيزران، ويصبرونَ لمُدّةٍ لا تتجاوز الدّقائق، يتوقّف بعدئذٍ ليفتح لهم الباب. فعلوا هذا الأمر مرّة وبلغوا منه مشقّة عظيمة؛ ولكنّهم قرّروا بعد قضاء استراحة أن يُكملوا لأنّهُ لم يتبقّ تُجاههم سوى نقطةِ تفتيشٍ واحدة.

في نقطةِ التّفتيش الأخيرة دخلَ أبو الخيزران إلى مبنى التّفتيش لتوقيع التّصريح بمهاراتهِ المعتادة؛ ولكن أحاديثهُ ومزاحهُ لم تلقَ التّرحيب هذه المرّة، وكان الضّباطُ يتبادلون الملاحظاتِ بينهم ويُلقون إليهِ بالتّلميحاتِ حول راقصةٍ تربطهُ علاقة بها، لم يفهمْ شيئًا من تلميحاتهم! فلا علاقة تربطه بأيّ امرأة؛ ولكنّهُ بدأ يفهمُ عندما قالوا له إنّ رئيس عمله الحاج رضا قد اعترفَ بسرِّ تنقّل مركبتهم الدّائم بين الحدود، وأنّ ذلك بسبب ذهاب أبو الخيزران في زيارة إلى راقصةٍ اسمها كوكب وقضاء الوقت برفقتها، عرفَ على الفور أنّهم حقّقوا مع الحاج رضا فلم يجد طريقة سوى اختلاق هذه القصّة الّتي صدقها الضباط، واقتنعوا تمامًا بوجود تلك المرأة الجميلة وانتهوا بأنْ طلب أحدهم من أبي الخيزران مرافقته ليتعرّف إليها!

طلبٌ لم يعرفْ أبو الخيزران ما يفعل بهِ فوافق مُجبرًا، وبعد التّوقيع ترك المبنى وركب سيّارته وأطلق لها العنان إلى أن وصل إلى داخل البلاد. أسرعَ أبو الخيزران بفتح باب الخزان ليجدهم قد ماتوا جميعًا من شدّة الحرارة والاختناق. فكّر كيف يتخلّص من جثثهم دون أن تتسبب في مشكلةٍ له، فكّر في دفنهم، ثمّ خشي ألّا يجدهم أحد ولا يعرف أهلهم عن موتهم، فاختار أنْ يرميهم في القمامة ليجدهم العمّال، وبعد أن ألقى بهم في القمامة عادَ إلى سيّارته ليُغادر، وبعد أن حرّك السّيارة قليلًا تذكّر شيئًا، فأوقف المُحرّك وعاد إلى الجثث وأفرغ ما في جيوبهم من نقود، وانتزع ساعة مروان، وعاد إلى السّيارة. في أثناء صعوده خطر على باله سؤال مهم جدًّا: لماذا استسلموا للموتِ ولم يدقّوا جدران الخزّان؟

رجال في الشمس

في رجال في الشمس كأنما أراد غسان الكنفاني أن يتحدّث عن مراحل النّكبة الفلسطينيّة الثّلاث، فأبو قيس يرمزُ إلى جيل نكبة 48 الّذي أذهلته الصّدمة لسنواتٍ وشلّت قدرته، ويرمز أسعد إلى جيل 67، ويتميّز عن صاحبيه بالوعي والإدراك والحُجّة، فهو يمتلك من الأدواتِ ما لم يمتلكاه؛ مع ذلك فقد واجه المصير ذاته.

أمّا مروان ذو السّتة عشرة ربيعًا فيرمز إلى الجيلِ الحالي الّذي لم يلقَ هذا المصير إلّا لأنّ من قبلهُ هم من وضعوهُ في هذا المكان، ففي الرّوايةِ أخوه الكبير زكريا الّذي كان يمدهم بالمال للتّعليم والإيفاء بمتطلّبات الحياة توقف عن مسؤوليّته تجاههم بعد أن تزوّج، فأصبح مروان مجبرًا على التخلّي عن فرصتهِ في التّعليم، والدّخول في مغامرةٍ دفع ثمنها حياته، أي أنّ هذا الجيل دفعَ ثمنَ ما فعلتهُ الأجيال السّابقة وما فرّطت فيه، ولأنّهُ لم يُقاوم فذلك دليلٌ على أنّ اختياراتهِ تُشبه اختياراتهم، وأنّهُ مثلهم تركَ حياتَهُ وأرضَهُ تضيع دونَ أن يُدافع عنها.

مع الانتباه إلى حقيقةِ أنّ من بين من خدعوهم وتسبّبوا في كثيرٍ من مشكلاتهم بنو جلدتهم؛ مع أنّهم ذوو قُربى، ولديهم همٌّ مشتركٌ وآلامٌ عاشوها معًا، أسلموا لهم القيادة وسكتوا عن أخطائهم فدفعوا ثمن ذلك غاليًا، وانتهى بهم الأمر لأنْ يعيشوا هذه الحقبة من تاريخهم مفقودين، لا يُمكن حسابهم مع الأحياء، ولا مع الأمواتِ أيضًا!

# رجال في الشمس غسان كنفاني By محمود قحطان،

محمود قحطان

مدقق لغوي، وشاعرُ فُصحى، ومُهندسٌ مِعماريٌّ. أحد الشُّعراء الَّذين شاركوا في موسم مُسابقة أمير الشُّعراء الأوّل في أبوظبي، حيثُ اختير ضمن أفضل مئتي شاعر من ضمن أكثر من (7500) شاعرٍ من جميع أنحاء العالم. نُشر عددٌ من إنتاجه الشّعريّ في الصّحفِ المحليّة والعربيّة، وأصدرَ أربعة دواوين شعريّة وكتابًا نقديًّا. مؤمنٌ بالفكرِ الإبداعيّ وأنّ كلّ ذي عاهةٍ جبّار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!