بين راحتين من ورق

الرابح يبقى وحيدًا

الرابح يبقى وحيدًا

ما معنى أن تكون طبيعيًّا حين تؤثّر السّلطة والمال والشّهرة في النّفوس؟

مُلخّص:

تذهب بنا الرابح يبقى وحيدًا إلى مهرجان ( كان) السّينمائي، حيثُ تتحوّلُ مدينة (كان) الفرنسيّة الصّغيرة إلى ملتقى لمشاهير العالم من مُمثّلينَ ومُخرجينَ ومُنتجينَ ومُوزّعينَ وعارضي أزياء، وشبابٍ باحثين عن فرصةٍ لدخول عالم الشّهرة والأضواء على الرّغم من نفقاتِ السّفر المُرتفعة إلى كان والإقامة فيها أيّام المهرجان. يُسافرون إليها حاملين كتيّبات تضمّ صورًا لهم ونُبذة من أعمالهم. ينظرونَ إلى هذا العالم من الخارج فيتمنّونه، دون أن يعلموا أنّ الموجودين داخله ليسوا سعيدين أبدًا.

(إيغور الرّوسي): رجلُ أعمالٍ ناجحٍ في مجالِ الاتّصالات، قَدِمَ إلى (كان) ليستعيد زوجته الّتي تعمل في مجال الأزياء وهجرتهُ لتتزوّج مصمّم أزياء عالمي دُعيَ لحضور المهرجان. يعلمُ أنّه سيراها ويلتقيها؛ ولكن تلك ليست رغبته الوحيدة، كان يُريد أن يستعيدَها، وهي الهاربةُ من ميلهِ إلى القتلِ الّذي انتبهت له حين قتلَ متسوّلًا مسكينًا كانَ قد أزعجهما عند طاولةٍ في أحد المطاعم، بعدئذٍ بدأت بالانتباه إلى الطّرائق الملتويّة الّتي كوّن بها ثروته؛ مع أنّها لم تعرف –تمامًا- تفصيلات تورّطه في تجارةِ السّلاحِ، وغسيلِ الأموالِ، والحروبِ الدّمويّةِ على الماسِ في أفريقيا؛ إلّا أنّها قرّرت الهرب بعيدًا عنه في أوّلِ فرصةٍ تسنحُ لها، تلك الفرصة الّتي جاءتها عندما تعرّفت إلى مُصمّمِ أزياءٍ من أصلٍ عربيٍّ عرض عليها الزّواج فقبلتْ، تاركة خلفها شخصًا أقسمَ لها أنّهُ سيُدمّرُ عوالم لأجلها.

منذُ أن وصلَ إلى المهرجان وجرائم قتلٍ مُتسلسلةٍ حصدتْ أرواحًا عديدة: فتاة صغيرة تبيع التّحف في أحد شوارع (كان)، ومخرجة شابة أنفقت ثلاثة عشر عامًا من عمرها في إنتاجِ فيلمٍ يحملُ رسالةً قيّمة، تحمّلت وصبرت وكافحت لأجل أن يظهر ظهورًا مُميّزًا، وأتت إلى المهرجان لمقابلة موزّع أفلام مُستقل، مجرّد قبوله توزيع الفيلم يعني أنّ الفيلم سيصلُ إلى دور العرض الكُبرى في العالم، وأنّها ستصلُ إلى أن يرى فيلمها النور، قُتِلَتْ هي الأخرى بعد أن قُتِلَ مُوزّع الأفلام إزاءها، أي: قُتلتْ بعد أن قُتِلَ حلمها!

(غابرييلا ): بعد أن نجحت ممثلة -ظلّت سنواتٍ تُؤمنُ بموهبتها الّتي لم ينتبه إليها أحد- في مُقابلةِ مُخرجٍ وممثّلٍ شهيريَن، قَبِلا أن تكون النّجمة القادمة لفلمهما بعد أداءِ اختبارٍ أدّت فيه بإتقان، وقّعتْ على عقودٍ لم تفهم ما فيها تمامًا؛ لأنّ عليها أن تكون بعد ساعاتٍ على السّجادةِ الحمراء بصُحبة الممثّل المشهور، في إعلانٍ لكونها بطلة الفيلم الجديد، تدخلُ إلى زحمة (الكواليس) فتُختارُ لها ملابسها، وتُضبطُ زينتها لتبدأ في الشّعور بشعور غير مريحٍ تجاه عالم الفنِّ من الدّاخل. تلمحُ التّعاسةَ الّتي تملأُ الوجوهَ، والضّغط الّذي يجعلُ كلّ شيءٍ يُعَدُّ بسرعةٍ على وقع عقارب السّاعة، وهو ما أكّده لها الممثّل الشّاب حينَ أخبرها أنّها تُذكّرهُ ببداياتهِ حين كان حالمًا بالشّهرةِ والمجد، وكيف أنّه –الآن- ضجرٌ من حياتهِ الّتي يبتسمُ فيها إلى الكاميراتِ حتّى ولو كان تعيسًا، ويحصلُ فيها على أقلّ ممّا تتناقلهُ وسائل الإعلام من أخبار، ويخافُ فيها من أن يأتي اليوم الّذي يخرُجُ فيه من البابِ الآخر لأنّ آخرين أصغر سنًّا قد احتلّوا السّاحة؛ ولكن الوقت قد تأخّر على أن تُعيدَ التّفكير في المجال الّذي دخلتْ إليهِ من أوسعِ أبوابهِ، تركتْ مخاوفها تذهبُ بعيدًا وهي تستعدُّ للحظاتِ الظّهور مع نجمها، ومخرجه؛ ولكنّها حينَ وصلت لم يكن هناك سواها، ومرّت إزاء الكاميراتِ دون أن يعرفها أحد؛ لأنّها لم تعرف أنّ الممثّلَ والمخرجَ في المستشفى، أحدهما قُتل والآخر بين الحياةِ والموتِ بعد أن فتحا مظروفًا يحوي غازًّا سامًّا، وأنّهما الآن في عداد الضّحايا لجريمة القتلِ المتسلسلةِ الّتي لم يتجاوز عمرها اليوم الواحد، هو: يوم المهرجان.

كانت هذهِ الجرائمُ رسائلَ من الزّوج إلى زوجتهِ بأنْ تعود، وكانتْ هذه الأرواحُ هي العوالم الّتي كان قد وعدها بتدميرها. كان يعلمُ أن قتلَ نفسٍ هو تدميرٌ لعالمٍ كاملٍ يحملُ داخلهُ ماضٍ وحاضرٍ ومستقبلٍ وذكرياتٍ وأحلامٍ؛ ولكنّه كان قد فقدَ منذ سنواتٍ الشّعور بالمرارةِ بعد أن قتلَ إنسانًا. هو الزّوجُ العائدُ من الجيشِ الرّوسي من حروبٍ قاتلَ فيها وقتلَ عشراتٍ دونَ أنْ يرفّ لهُ جفنٌ، حروبٍ تعلّم فيها وسائلَ للقتلِ مُتطوّرة، استخدمها بتنوّعٍ في يومٍ واحدٍ ودون أن يتركَ دليلًا واحدًا يُشيرُ إليه. كان آخرها زوجتهُ وزوجها اللّذين التقاهما في عشاءِ الحفل، وطلبَ أن يلتقيهما على انفرادٍ لتسويةِ الأمور بعيدًا عن فضولِ الصّحافةِ الّتي تملأُ المكانَ وتبحثُ عن أيِّ حدَثٍ استثنائيٍّ قد يحدُث للمشاهير الموجودينَ فيه.

إزاء البحرِ اعترفَ لها بما فعلهُ لأجلها؛ ومع أنّها حاولت تهدئته وطلبتْ منهُ أن يُسامحها ويعيدها إليه؛ ومع كلّ الكلام الجميل الّذي قالتهُ له عن أنّها تُحبّه ولم تنسه يومًا؛ إلّا أنّها لم تستطع حماية زوجها الجديد ونفسها منه، فبعدَ أن قتلهُ بهدوءٍ بمسدّسٍ صغيرٍ مُتّصلٍ بكاتمٍ للصّوت، أخبرها أنّه ما عاد يجدُها تستحقُّ كلّ هذا الّذي بذلهُ لأجلها، وقبلَ أنْ تردّ بكلمةٍ واحدةٍ كانتْ قد سقطتْ ميتة إلى جانبِ زوجها.

على الواجهةِ مهرجانٌ ناجحٌ، ويسيرُ وَفْقَ البرنامج المعدّ له، وخلفَ (الكواليسِ) شرطةٌ مرتبكةٌ تبحثُ عن قاتلٍ أو أكثرَ طليقين في (كان)، يبحثونَ مع الطّبِ الشّرعيِّ ووكالةِ الشّرطةِ الأوروبيّةِ (يوروبول) ومندوبي الدّولِ الّتي قُتلَ رعاياها عن إمكانيّةِ أنْ تُعدّ جريمة قتلٍ مُتسلسلٍ نفّذها قاتلٌ واحد، وعن إمكانيّةِ التّفكيرِ في عملٍ إرهابيٍّ مقصود، وعن أيِّ دليلٍ يقودُ إلى القاتلِ الّذي كانَ في هذه الأثناء على متنِ طائرتهِ عائدًا إلى بلاده، ليبدأَ في الغدِ يومًا جديدًا كأنّ شيئًا لم يكن.

تحليل:

تنتمي الرابح يبقى وحيدًا إلى عالم الجريمة. فيها تحليلٌ لشخصيّاتِ أبطالها خاصّة شخصيّة القاتل. يومٌ واحدٌ فقط ينتقلُ فيه القارئ بين شخصيّةٍ وأخرى ليقرأ قصّتها. أبرز أبطالها إضافةً إلى (أيغور الرّوسي) و (غابرييلا) يوجد المُصمّم الشّاب الخليجي (حميد حسن)، الّذي جاء إلى فرنسا لتحقيق أحلامه مُستندًا إلى بيئتهِ الصّحراويّة الّتي أعطتهُ الحافز وصقلتهُ ليستمرّ في السّعي وراء أحلامه وتحقيقها. المُفتّش (سافو) السّاعي وراء حلّ لغز جرائم القتل آملًا في إثبات قدراته لتحسين وضعه الوظيفي. جميع شخصيّات الرّواية لديهم أحلامهم الّتي يَرمون إلى تحقيقها ويستهدفونها.

تنحرفُ الرّواية صوب عالم أجاثا كريستي. تختصرُ عالمًا من النّاسِ جُمعوا في مكانٍ واحدٍ وفي يومٍ واحدٍ. هؤلاء النّاس هم الطّبقة المخمليّة ومُترفوها بما فيها من سلطةٍ ومالٍ وشُهرةٍ، هؤلاء الّذين يتحكّمون بمصائر الشّعوب بما يصنعونه من حروبٍ ومُعاهداتٍ وبما يُثيرونه من صراعاتٍ لتظلّ مصالحهم صالحة إلى الأبد. هؤلاء النّاس هم الّذين يُؤثّرون في حياةِ الملايين من البشرِ، فهم قادرون على إغراق العالم في أزماتٍ لا تنتهي بما يملكونه من وسائل إعلام تُؤدّي دورها الكبير في صناعةِ العقلِ وتشكيله، وترويض أفكاره بما يتلاءم مع إرادتهم، كلّ هذا مع أنّهم يعيشون حياةً هشّة وأضعف ممّا يُحاولون ترويجه.

يُعرّي باولو كويلو هذا العالم ويُلغي أقنعتهُ ويكشف ما يُحاول أن يسترهُ أفراد هذا المُجتمع المُترف؛ ليفضح إمبراطوريّات رأس المال الّتي تملك كلّ شيء من سلطةٍ ومالٍ ونفوذٍ وشُهرةٍ قادرة على تغيير المُجتمع وتشويهه. أفراد هذا المُجتمع الّذين يحملون القناعاتِ الفاسدة والمُغرّر بهم، الّذين يركضون خلف أحلامهم وطموحاتهم الذّاتيّة الّتي لتحقيقها لا يرون من يدهسونهم بأقدامهم؛ مع أنّ بعض البشر العاديّين يعيشون حياةً أفضل من حياتهم المُزيّفة.

تضعُ الرابح يبقى وحيدًا سؤالًا كبيرًا ضمن صفحاتها: «ما معنى أن يكون المرءُ طبيعيًّا؟»؛ ومع أنّ هذا السّؤال يُشبه السّؤال الّذي طرحتهُ (فيرونيكا) ولكن بطريقةٍ معكوسة: «ما معنى أن تكون مجنونًا؟». تُجيبُ الرّواية:«

  1. استهلاكُ سنواتك وأن تدرسَ في الجامعةِ لتكتشف في نهاية ذلك كلّه، استحالة توظيفك!
  2. العملُ كلّ يومٍ من الثّامنةِ حتّى الخامسةِ في عملٍ لا يُتيحُ أيّ لذةٍ، وتتقاعد منه بعد ثلاثينَ سنة!
  3. تتقاعد لتكتشف أنّك لم تعدْ تملك ما يكفي من الطّاقة للتّمتّع بالحياةِ؛ فتموتُ من الضّجر المحضّ بعد ذلك ببضع سنين!
  4. السّخريةُ من كلّ من يسعى إلى السّعادةِ بدلًا من المال واتّهامه بفقدانِ الطّموح!
  5. توجيهُ النّقد إلى كلّ من يُحاولُ أن يكونَ مُختلفًا!
  6. ازدراءُ كلّ ما هو سهل التّحقيق لأنّه لا يُساوي شيئًا إذا لم يتضمّن أيّ تضحية!
  7. الشّتمُ في زحمةِ السّير!
  8. تفادي الكآبة بجرعاتٍ يوميّةٍ كبيرةٍ من مُشاهدةِ التّلفزيون!
  9. الاعتقادُ بأنّ السّلطة أهمّ من المال، والمال أهمّ من السّعادة!
  10. السّعي وراء السّياراتِ والمنازلِ والثّيابِ وتحديدِ الحياةِ وَفقًا لها بدلًا من مُحاولة اكتشاف السّبب الحقيقيّ لحياتنا!
  11. التّشبّث بما تعلّمناه من أبوينا والمدرسةِ والتّفكير به عوض التّفكير فيه ومُراجعته!
  12. الزّواجُ وإنجابُ الأولاد والبقاء معًا بعد مُدّةٍ طويلةٍ على موتِ الحبّ مُعدّين أنّ في ذلك مصلحة الأولاد!
  13. استثمارُ الوقتِ والمالِ على الجمالِ الخارجيّ ونسيان الجمال الدّاخلي!
  14. مُحاولة الظّهور بمظهرِ المتفوّق على من حولك من البشرِ مع أنّك إنسانٌ عادي!
  15. الاعتقادُ بكونك تزداد حكمة كلّما تقدّم بك العمر!
  16. إسقاطُ بعض الملاليم في أحد الصّناديق الخيريّة أو في كفِّ شحّاذٍ، أو المُشاركة في حفلةٍ موسيقيّة أو مُسابقةٍ خيريّةٍ والاعتقاد بأنّك أدّيتَ ما عليك لمُحاربة الفقر والتّفاوت الاجتماعي!».

لهذا يراني بعضُ النّاسِ غير طبيعي، وبعضهم الآخر يراني طبيعيًّا!

هل يُمكنك أن تُخبرني في التّعليقاتِ ما معنى أن تكون طبيعيًّا؟ وكيف يراك النّاس؟ إذا كنت تعرف حقيقة نفسك، عرّفها لنا!

الرابح يبقى وحيدًا By محمود قحطان،

محمود قحطان

استشاريٌّ مِعماريٌّ باحثُ دراساتٍ عُليا في التّصميم البيئيّ وكفاءة الطّاقة في المباني. مُدقِّقٌ لُغويٌّ، وشاعرُ فُصحى. أحد الشُّعراء الَّذين شاركوا في موسم مُسابقة أمير الشُّعراء الأوّل في أبوظبي، حيثُ اختير ضمن أفضل مئتي شاعر من ضمن أكثر من (7500) شاعرٍ من جميع أنحاء العالم. نُشِرت عنه رسالة ماجستير، ونُشر عددٌ من إنتاجه الشّعريّ في الصّحفِ المحليّة والعربيّة، وتُرجِم بعضها. أصدرَ أربعة دواوين شعريّة وكتابًا نقديًّا. مؤمنٌ بالفكرِ الإبداعيّ وأنّ كلّ ذي عاهةٍ جبّار!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!